الحلقة التاسعة
سنبقى أوفياء
يتابع الرفيق ابو عدنان في هذه الحلقة البحث الذي بدأه الحلقة الماضية والمتعلق برؤيتنا ” لإمكانية خروج العمل الوطني من مأزقه الراهن”.
وكانت الحلقة الثامنة قد اكدت على ” أن البقاء بمستنقع الضياع الطائفي سينتهي بالعمل الوطني الى مزيد من التدهور”. وان ” نشاط الاحزاب الوطنية اليوم من حيث مضمونه واسلوبه لا يمت بصلة الى الجماهير ولا يثير اهتمامها ” … وان ” الظروف مهيأة للتغيير بيد ان العامل الذاتي مفقود بسبب بقاء الاحزاب الوطنية والتقدمية اسيرة ارادة القيادات الطائفية.
7
إنني لا أعني بافلاس الحركة الوطنية، الناحية الشكلية، أي انفلاش الروابط التنظيمية نتيجة حلها عام ١٩٨٢، والغاء صيغة المجلس السياسي المركزي واللجنة التنفيذية، وفشل كل الصيغ، اللاحقة: جبهة الخلاص الوطني. الجبهة الوطنية الديمقراطية… جبهة الاتحاد الوطني… جبهة التوحيد والتحرير… جبهة، بل جبهات يحضرون لها اليوم… لا أعني الناحية الشكلية، فقط بل ان الافلاس قد شمل المضمون، لدرجة لم يبق معها عملاً وطنياً يقنع الجماهير بجدواه وفائدته وضرورته لها!..
إن نظرة الازدراء التي تصفع بها الجماهير قياداتنا الوطنية، لهي تعبير عن انعدام الثقة بحملة راية العمل الوطني.
يقال أن فلاحاً رأى أن بيض دجاجته يخرج ملطخاً بوسخها. فراح يغير قنها دون جدوى، اذ رغم التغيير المستمر فان البيض بقي يخرج متسخاً. ولم يدرك هذا الفلاح المسكين أن العلة بمخرج الدجاجة وليس بالقن الذي تأوى اليه.
لقد تعددت اسماء الجبهات، مثلما تعددت اماكن بيض الدجاجة. دون ان تدرك قياداتنا الوطنية، ان العلة لا تكمن بالصيغة، وانما بالمضمون الذي يعبر عنه.
أي عمل وطني، هذا الذي يقف عاجزاً امام أزمة اجتماعية – اقتصادية – سياسية عامة ومتفاقمة، وقوفاً انتقلت معه القيادات الوطنية الى مجرد اسماء لا معنى لوجودها غير معنى القبض والصرف! أية قيادات وطنية، هذه التي تكد أذهانها، لايجاد اسم جديد، لجبهة جديدة، يلغي قيامها قراراً اتخذوه، ومفاهيم صاغوها، دون أن يقولوا للجماهير… للناس، لماذا اعلنوا عن قيام جبهتهم، ولماذا الغوها. سوى ان الالغاء لا يحظى بهمروجة اعلامية، كما هو شأن الاعلان. أليست هذه ظاهرة افلاس وازدراء؟
إن تشكيل الجبهات الوطنية، يجب ان يكون قائماً على فهم وتحليل للظروف الموضوعية والهدف الوطني الداعي لتجمع مختلف القوى في جبهة!
أن العمل الجبهوي ليس صفقة تجارية. كما ان قيام جبهة للعمل الوطني، ليس فتح مكتب للصيرفة. يمكن ان يفتح في شتورا او في صيدا بعد اغلاق مكتب بيروت بسبب المضايقات الامنية وانما هو تجسيد لرؤية سياسية، وهدف أو أهداف محددة ومشتركة، تجتمع حولها عدة متناقضات، ضمن اطار الساحة الوطنية. لذلك فان تكرار اعلان قيام الجبهات من قبل القيادات الوطنية، والغاءها بالاهمال ووضع صيغتها في زاوية النسيان، دليل قاطع على افلاس مريع للفكر الوطني الذي بات عاجزاً عن تحديد رؤيته للواقع الذي يعيشه.
تذكروا: جبهة الخلاص الوطني، اعلنت بمؤتمر صحفي، عقدوه في بعلبك بسبب تعذر عقده في بيروت أنذاك، ثم ماتت بدون ورقة نعوة.
الجبهة الوطنية الديمقراطية، أعلنت، وبسبب الاعتراضات التي سجلت عليها، قامت لجنتها التحضيرية، بارسال وفد طاف على الاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، بذريعة التشاور معه . وكما يفعل المعلم الفاشل بطلابه، حين يأخذ دفاتر الامتحانات ويهرب دون ان يرد جواباً لاصحابها، اذ ضاعت الاجوبة مع ضياع الصيغة.
جبهة الاتحاد الوطني اعلنت بمؤتمر وهمروجة اعلامية، ثم ماتت بدون نعوة. وجبهة التوحيد والتحرير، اعلنوها ثم دفنوها بالسر، وكأنها الفضيحة… ثم الحبل على الجرار!
أليست هذه احدى مظاهر افلاس العمل الوطني، نتيجة افلاس قياداته؟
اذا كان سؤالي هذا، ينطوي على تجني، فاخبرونا، عن الاسباب الداعية لاعلان الجبهات، والدافعة لالغائها. وعن مسؤوليتكم بذلك كله.
أم أنكم لا ترون مسؤولية أدبية، تترتب على اعلان الجبهة والغائها؟
إن العمل الجبهوي يجيء تتويجاً لاتفاق قوى متعددة تمثل مصالح طبقية متباينة، تلتقي حول اهداف مرحلية مشتركة، ترى في تحقيقها منجزات لها. فأية مراحل نهضت بها جبهاتكم وأية اهداف حققتها؟
8
امام هذا الوضع، المأزق الذي انحشرت فيـه القيادات واحـزابـها الوطنية، فلم يبق أمامها، سوى خيارين: ان تسحب اقسام بنادقها لتقاتل كل الاطراف والجهات التي تعمل على استمرار الحرب، بما فيها القيادات المحسوبة على الصف الوطني، أو ان تنسحب من ميدان المتاجرة بدماء الشهداء ولقمة عيش الناس، وتعلن ادانتها لكل قائد او قيادة حزب أو جبهة تعمل على استمرار الحرب لمأربها الخاصة الشخصية والطائفية، وتشنها حرباً اعلامية بقدر ما تحشد الجماهير ضد استمرار حرب الاثراء غير المشروع وتجويع الكادحين وسفك دماء ابنائهم، فأنها تعزل القيادات والجهات الطائفية، لأي دين او مذهب انتمت عن الشارع العام وتعريها!..
- إنّ الاحزاب الوطنية مطالبة بالتراجع والعمل على تنظيم المؤتمرات
والمهرجانات والمظاهرات الشعبية ضد الدولة الموجودة .
- إنّ نظرة الازدراء التي تصفع بها الجماهير قياداتنا الوطنية
لهي تعبير عن انعدام الثقة بحملة راية العمل الوطني .
ونظراً لاستحالة الخيار الاول، فليس أمام الحركة الوطنية ان أرادت ان تخرج من مأزق العجز الذي تعيشه سوى الخيار الثاني، أي التراجع عن تبعيتها للقيادات والقوى الطائفية، وتنهج نهجـاً مستقلاً، من شأنه ان يعيدها الى جماهيرها ويعيد جماهيرها اليها.
قد يقال ان التراجع عن مشاركة القوى المواجهة للمارونية السياسية، من شأنه ان يساعد على اطالة أمد استمرار الوضع الراهن، الأمر الذي يزيد من تفاقم الحالة المعيشية للجماهير. بيد ان قولاً كهذا، لا يعدو عن كونه مبرراً هامشياً للاستمرار بذيل القيادات والقوى الطائفية. بدون جدوى، فلو ان الاحزاب الوطنية، ما تزال تمتلك رأياً وموقفاً مؤثراً، كما كانت، قبلاً لوجد مثل هذا القول وجاهة.
تذكروا على سبيل المثال، الضجة التي اثارتها دعـوة الحركة الوطنية للمجالس المحلية. وقارنوها مع الوضع الراهن، وسترون ان الحالة السابقة عـلى بؤسها كانت افضل. فأي تدهور وانحطاط بلغه عملنا الوطني، اليوم؟
إننا اليوم محشورين، ضمن المعادلة التالية:
أما استمرار الاحزاب الوطنية، سائرة بذيل القيادات الطائفية ومشاركة بخداع الجماهير وبسحقها اقتصادياً. وتغطية هذه المشاركة باشكال نضالية خادعة.
وأما التراجع عن الذيلية والتبعية للقوى الطائفية والعودة للجماهير والتعرف على مزاجها وتحريضها ضد مستغليها الطبقيين لأية طائفة انتموا، ودعوتها لعمل وطني ثوري مستقل عن قوى الطوائف، ستؤول اليه الحالة الراهنة حتماً.
ولكن ماذا يعني تراجع الحركة الوطنية عن دوامة الضياع ومتاهة الدوران بذيل القيادات الطائفية؟
- ليس امام الحركة الوطنية ان ارادت ان تخرج من مأزق العجز
سوى التراجع عن تبعيتها للقيادات والقوى الطائفية وتنهج نهجاً مستقلاً .
- ان الثورية مفهوم يعني عملا طليعياً واعياً ومنظماً وهادفاً تحريض الجماهير
ضد ظالميها ودعوتها للثورة عليهم .
إنه يعني بكل بساطة تخلي القيادات عن نهج الانتهازية والنفعية واستبداله بالعيش مع الجماهير وتحسس قضاياها وتشخيص مشاكلها، بغية رسم خط سياسي قائم على اساس منهج وطني ملتزم باستقلال الحركة الوطنية عن المناهج الطائفية وتميزها عن القيادات الطائفية شكلاً ومضموناً، فهل بوسع قياداتنا الوطنية ان تتخلى عن وضعها الراهن وتتحرر من الذيلية والتبعية للقيادات الطائفية؟
إن التراجع عن ” موقف ” الازمة القاتلة الذي تلتزمه القيادات الوطنية، لا يصح ان يفهم خطأ بكونه خطوة من اجل براءة ذمة القيادات الوطنية المسؤولة عن حالة التخيط والضياع التي يعيشها العمل الوطني اليوم، في لبنان. إن التراجع خطوة الى الوراء تتخذها القيادات الوطنية، لكي تتقدم خطوتين الى امام… خطوة الى الوراء تحررها من التبعية والذيلية للقيادات الطائفية، التي ستبقى مكشوفة تماماً، بعد ان تعجز عن اللطو وراء الشعارات والصيغ الموسمية للعمل الوطني. وبذلك فإن هذه الخطوة، رغم وصفها بالتراجع فإنها من الناحية المبدئية والعملية، خطوة الى امام. لان التراجع عن الخطأ فضيلة، كما يقال… فضيلة لانه يكشف الخطأ ويحوله الى درس يردع تكرار اقترافه من جهة، ويعزز النهج الصائب ويدعم فعاليته من جهة آخری!…
وليس التراجع مجرد تحرر من الخطأ القاتل الذي اقترفته وما تزال تقترفه القيادات الوطنية، اعني اللطو بكنف القيادات الطائفية والتمسح بأعتاب نفوذها، بل انه عودة للجماهير ومصارحتها بعوامل عجز العمل الوطني، ودعوتها لأن تلتف حول منهج العمل الوطني المتحرر من التبعية للقيادات الطائفية، والحكام والجهات التي تدفع لكي تسير، وبهذه المعاني، فإنه انتشال للعمل الوطني من مستنقع مسلكية « فن الممكن »، الانتهازية ، من جهة ورسم طريق جديدة لعمل وطني حقيقي، قادر على كسب ثقة الجماهير وتوجيهها لتمتلك زمام ارادتها وتحتشد بميدان مجابهة اعدائها الفاشيين جهة، خاصة والرجعيين عامة، واقامة نظامها الوطني الديمقراطي على انقاض نظامهم الرجعي العميل.
ان التراجع عن التبعية هو الطريق الوحيد، لامتلاك العمل الوطني زمام ارادته واحترام مبادئه، لكي ينطلق من جديد نحو المستقبل بثقة اكيدة واعتماد على النفس والرؤية الوطنية التقدمية الواضحة. تعرف ما تريد وتناضل من اجل تحقيق ما تريد.
عام 1975 توفرت فرصة تاريخية للحركة الوطنية لكي ترسم طريقا وطنيا ضد الفاشية، خاصا بها. ولكنها تراجعت عنه. وفي عام ١٩٧٨، توفرت لها فرصة أخرى فاضاعتها، بعد ان اختارت البقاء في موقع التبعية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وعام ۱۹۸٢، توفرت لها فرصة افضل من كل الفرص، بفضل جبهة المقاومة الوطنية التي درست مقوماتها واسست عملها، الاحزاب الشيوعية الثلاثة: الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي، ومع ذلك ضيعتها.
اما اليوم فإن الفرصة متوفرة امام الاحزاب الوطنية وفي المقدمة منها الاحزاب التقدمية، لتميز نفسها بالتراجع عن الضياع الذي قادت اليه الذيلية للقيادات الطائفية، والعودة للجماهير بغية تحريضها ضد الحرب ورموزها والداعين لها، وبهذه الطريقة تعمل على عزل القيادات الطائفية، وعـلى الاقل تخلق هوة بين الجماهيروبينهـا، من جهة اولى، وسيكـون تأثير تحريضها ضد الحـرب اكبر من ناحية استعادة وحدة الوطن، اذ انه من الناحية العملية، تحريض ضد الكيانات والمناطق الطائفية، من جهة ثانية، وستجد الجماهير نكهة وطنية محببة لها، في الدعوة لالغاء الحواجز الطائفية وتحررها من القيود والرسوم والاحكام التي تفرضها، من جهة ثالثة، وستزداد نكهة التحريض الوطني، حلاوة لدى الجماهير عندما يتوجه لتحريض ضد المرافىء الطائفية، والخوات الطائفية، والاعتداءات على الحرمات وانتهاك الأعراض، وكل المحرمات الاجتماعية التي يمارسها زعران القيادات الطائفية وميليشياتها، من جهة رابعة!…
قد يستفهم مستوضح عن الفوائد التي يجنيها العمل الوطني، من التراجع عن الطوائف وكياناتها ومناطقها وقياداتها والعودة الى الجماهير، اما جوابنا على استفهام كهذا، فنوجزه بالقول، اضافة الى ما تقدم:
ان ايقاف الحرب – المسخرة، من شأنه ان يعيد الصراع الطبقي والوطني الى مجاريه الطبيعية، لكي تعرف الجماهير كيف تخوض صراعها، وضد من تخوضه. وبعودة الصراع الى مجاريه الطبيعية الطبقية والوطنية، يرتفع شأن الاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، ارتفاعاً سيحدث عملية فرز اجتماعية تتميز معها المواقف الوطنية والطبقية عن المواقف الطائفية.
هذا هو الاستنتاج، بل الدرس والعبرة، التي يجب استخلاصها من معطيات تجربة العمل الوطني السابقة: ضرورة التراجع والانسحاب من كنف القيادات الطائفية، وشق طريق وطني، تكون الجماهير وحركتها عنصره وعماده. وليس امام الانطلاق نحو هذه الاستقلالية سوى طريق وحيد اليوم، هو طريق تحريض الجماهير ضد استمرار الحرب الطائفية وضد الكانتونات الطائفية، والقيادات الداعية لها، بغية اعادة الصراع الى مجاريه الطبيعية. وليس من سبيل لبلوغ هذا الطريق، غير التراجع من المواقع الطائفية الى مواقع الجماهير الشعبية وتعبئتها ضد مستغليها والمتخومين من وباء تضورها جوعاً وموتها حرباً بقذائفهم العشوائية.
انه المسلك الوطني الوحيد المتبقي امام الاحزاب الوطنية، طالما ان امكانية حسم الموقف عسكرياً غير واردة. وطالما ان « مناطقنا الوطنية » قد فقدت طابعها الوطني، أو على الاقل بات طابعها يعاني من طغيان الطائفية عليه، لذلك فإن التراجع عن التبعية لقيادات « مناطقنا الوطنية » والعودة للجماهير والعمل بين اوساطها، ضد الحرب ودعاتها ورموزها، يمثل طريقاً وحيداً متوفرا اليوم، امام القيادات الوطنية، لتصحيح نهج عملها الوطني، وتمكينه من استعادة طابع مناطقنا الوطنية، بعزل القيادات الطائفية التي تفرض هيمنتها علينا وعلى مناطقنا.
قد يضحك خبيث من دعوتي لاحزاب العمل الوطني لان تضحي بـ « القبض » اذا اقتضى الأمر، في سبيل انتشال نفسها من مستنقع العفن الطائفي ومن اجل شق طريقها الكفاحي الخاص بها… قد يضحك خبيث قائلاً: انك كمن ينصح رجال « البورصة » بعدم المضاربة بحجة ان كل منهم يخسر ثروته بسبب هذه المضاربة.
ولكن جوابي جدي في قناعته، يكون الطريق الوحيد، الذي تتيحه تطورات الحرب اليوم، امام العمل الوطني، يتمثل بالتراجع خطوة بغية التقدم خطوتين. قبلاً كانوا يتذرعون بعدم ملاءمة الظروف. أما اليوم فإن عجزهم عن ضبط مسار الحرب وتوجيه تطوراتها، لم يكشف حقيقة القيادات الطائفية التي كانت محسوبة على الصف الوطني، فحسب، وانما كشف عجز منطق ورؤية القيادات الوطنية نفسها، كشفاً رغم قسوته، فإنه لم يغلق الباب نهائياً امام العمل الوطني.
انكم متهمون، وليس امامكم لتبرئة ساحتكم، سوى التراجع والعمل على تنظيم المؤتمرات والمهرجانات والمظاهرات الشعبية ضد « الدولة الموجودة » التي تتوزع عناصرها الادوار لابقاء الجماهير مسحوقة بفكي رحى الغلاء الفاحش والقذائف العشوائية.
لا تجهدوا انفسكم بصيغ جديدة، تحاولون الخروج بها من مأزقكم. فإن كنتم حريصين، حقاً، على الاحتفاظ بصفتكم التي تحملونها، فأمامكم باب وحيد مفتوح للخروج من موقع العجز والخيانة، الذي يحاصر العمل الوطني. إنه باب الاستقلال عن القوى الطائفية، والقائم على أساس منهج وطني يطرح البديل الاجتماعي – السياسي لما هو كائن، ويتخذ من مناهضة الحرب ووضع حد لها، مدخلاً لنشاطه وحيويته وفعاليته.
وليس يعني الاستقلال مخاصمة هذه الجهة او تلك، بل انه يحصر خصومته ضد القوى والقيادات الداعية للحرب والعاملة على استمرارها.
9
لقد فقدت الحرب طابعها، ولم يبق لها هدف، غير هدف استنزاف الجماهير وسحقها. ولهذا السبب فـقـد بلغ تذمر الشعب ذروة لم يبلغها من قبل. والجديد الخطير بالامر يتمثل بكون هذا التذمر، لم يعد محصوراً بالفاشية وممارساتها، بل انه بات موجهاً ضد القيادات في « مناطقنا الوطنية ». واصبح كالنار التي تسري بالهشيم ولا بد ان تندلع حتماً.
ان الظروف الموضوعية مهيأة للتغيير بيد ان العامل الذاتي مفقود، بسبب بقاء الاحزاب الوطنية والتقدمية اسيرة ارادة القيادات الطائفية. لذلك فإن التراجع من خضم الضياع الراهن، هو تراجع عن الذيلية للقوى الطائفية وعودة للجماهير للتعرف على مزاجها وتوجيهها وتحريضها ضد اعدائها ومضلليها.
ان تياراً ثورياً سينبثق من واقع المأساة الراهن. ولست اعني ان بنادق ستتوجه بفوهاتها نحو الفاشية وعموم الرجعية لتقضي عليها في الحال، وتحرر الجماهير الشعبية منها. فهذه خزعبلة فكاهية، او لفظة يسارية، لست ممن يجيدون صناعتها. فبعد ان انحسرت البنادق « الوطنية »، وباتت تتسلى بحرب الزواريب والطوائف التي تخاض مقابل ثمن بالعملة الصعبة. لم يعد مجال لثوري حقيقي ان يشغل نفسه بصياغة مفاهيم وشعارات باتت نفوس الجماهير تعتادها من كثرة الاستخدام المسيء لها!
ان الثورية مفهوم يعني عملاً طليعياً واعياً ومنظماً، وهادفاً تحريض الجماهير ضد ظالميها ودعوتها للثورة عليهم. والقوى السياسية التي تلتزم المنهج الثوري، لا بد ان يتوفر فيها شرط الالتصاق بالجماهير والعيش وسطها، واحترام مزاجها، ولا يمنع ان تعمل هذه القوى على تغيير مزاج الجماهير، اذا كان يعاني من عدم القدرة على ادراك ضرورة التغيير الثوري، الذي يدعو اليه نضج الظروف الموضوعية. ولكن عملاً ثورياً يستهدف ايقاظ الجماهير وبلورة وعيها، لضرورة الثورة التي تنضج، لا بد ان تكون القوى الداعية له والقائمة به، وسط الجماهير، والا فإنه يبقى مجرد لفظة ثورية، يرددها ” مناضلو الصالونات المخملية”.
ان الثوريين يرفعون الشعار الثوري، بعد ان يصوغوا مفهومه ويوضحوا ملاءمة ظروفه، واللحظة التاريخية الداعية له. وبعد ذلك، فإن الحاجة تصبح ملحة للبندقية التي تضع الشعار والمفهوم، قيد الترجمة العملية والممارسة المرئية من قبل الشعب والهادفة شن حرب اهلية ضد اعداء الجماهير الشعبية!..
وعندما تتغير الظروف التي دعت لرفع الشعار، تغييراً يلغي مبرر رفع الشعار، فإن الثوريين يبادرون لانزاله، وتبعاً لذلك، فإنهم يكمكمون بنادقهم، تربصاً وانتظاراً لتغيير جديد، يتيح لهم العودة الى بنادقهم بغية الاطاحة بالرجعية واحلال نظام الجماهير الشعبية على انقاض نظامها!..
يتضح ان البندقية، ليست الداعية لرفع شعار الثورة، بل ان الشعار هو الذي يدعو لحمل البندقية. دعوة تجعل من البندقية وسيلة الشعار للعبور الى مساحة الترجمة العملية، لكي يتحول الى واقع ملموس تتحسسه الجماهير في وتعيش زخمه النضالي.
هذه بدهية، يدركها كل من يعلم ان البندقية رمز للحرب، وأن الحرب مجرد استمرار للسياسة بوسائل أخرى، وان الشعار هو السياسة، التي تتكرر في ميدان الحرب. اما اولئك الذين يفهمون البندقية وبالتالي الحرب هي العنف الثوري المسلح، وان مجرد حملها يجعل من الانسان ثورياً… اما هؤلاء فليسوا، سوى مرتزقة لا يجدون غير الحرب وسيلة للعيش او مدعين يفتقرون لعنصر الوعي، في احسن الاحوال.
ولكن كيف يدرك الثوريون، ان ظروفاً معينة تدعوهم لرفع شعار الثورة، وبالتالي حمل البنادق وسحب اقسامها، وظروفاً معينة أخرى تدعو الى العكس، اي الى انزال شعار الثورة وكمكمة البنادق، اي التراجع عن السير نحو الهدف الذي من اجله رفع الشعار وسحبت البنادق اقسامها؟
هنا، يتدخل الفكر، للاجابة على هذا السؤال. فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية، تدخلاً يسلط معه اشعته لتكشف طبيعة الظروف السائدة، وتستخلص معطيات التطور وحجم الايجابيات الداعية للثورة والسلبيات المعيقة لنشوبها وبالتالي نجاحها!..
واذن، يتضح ان الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية هو الذي يدعو الى رفع شعار الثورة او انزاله، والذي بناء عليه قرر لينين ومعه حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، انزال شعار: « كل السلطة للسوفيتات».
اذا كان هذا هو المخرج من ازمة العمل الوطني،
فماذا فعل حزب العمل الاشتراكي العربي وكيف طبقه
وما هي محصلة التطبيق؟ الجواب في الحلقة الاخيرة.