الحلقة الاخيرة
الجزء الاول
سنبقى أوفياء
يقول السؤال الذي اختتمنا به الحلقة التاسعة: إذا كان هذا هو المخرج من أزمة العمل الوطني. فماذا فعل حزب العمل الاشتراكي العربي، وكيف طبقه، وما هي حصيلة التطبيق؟ “.
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من إعادة التأكيد على أن حزب العمل الاشتراكي العربي، قيادة وقاعدة، يدرك تماماً أنه لا يتحمل مسؤولية ترشيد العمل الوطني وتوجيهه. بحكم موقعه ومحدودية قدراته، بالنسبة للأحزاب المتنفذة والمقررة لمصير العمل الوطني، والتي تستثمر أي نجاح يحرزه هذا العمل، استثماراً يلقي على عاتقها مسؤولية الفشل وعدم النجاح. غير أن إدراكنا لعدم مسؤوليتنا، وتصرفنا على هذا الأساس، لا يعني ولن يعني اطلاقاً، انعدام حقنا، بل واجبنا في ابداء الرأي وطرح وجهة النظر، فيما نراه ضرورياً وهاماً. والا فسنكون كما الشيطان الأخرس، نعرف ولا نجهر بما نعرف. ومعلوم فإن الحزب الذي يسكت عن الحق التقدمي والواجب الوطني، لا بد أن يكون شريكاً بالمسؤولية التي يقررها غيره. فالسكوت من الرضا كما يقال. وإن لم يكن كذلك بالضبط، فعلى الأقل أن صاحبه كشاهد الزور، يعرف الحقيقة ولكنه يتستر عليها.
فنحن، إذن، أصحاب وجهة نظر، ومسؤوليتنا عما يتعرض له العمل الوطني، محصورة ضمن هذه الحدود. نجهر بها بين جدران الحركة الوطنية الأربعة، حين تكون لها جدران، ونعرب عنها علناً حين تنهار الجدران ويبقى العمل اسم بدون مسمى، كما هي الحال، الآن، مع الأسف الشديد. فقد طرحنا على الحركة الوطنية عام 1975، أن تمتلك مشروعها الوطني المستند إلى قوة إرادة جماهيرها المسلحة، فاختارت ” برنامج الاصلاح الديمقراطي ” ، فعارضناه، انطلاقاً من رؤيتنا لكون تطورات الأحداث تنزع نحو العنف المسلح، الأمر الذي يجعل الحديث عن الديمقراطية والاحتكام لرأي الأغلبية الشعبية، وفق أسلوب الانتخابات النيابية، بدون مضمون. وطرحنا عليها عام ١٩٧٨ أن ” تشق طريقاً لبنانية – لبنانية ، للحرب مع الفاشية ومع دولة الاغتصاب بإقامة جبهة مقاومة شعبية، فرفضت وأجبرتنا على التراجع. وعولنا على التحالف الثلاثي عام ١٩٨٢، الذي ضم الأحزاب الثلاثة انشأت جبهة المقاومة الوطنية، ليكون انطلاقة نحو النهج الصائب، ففرط الحزب الشيوعي، بذلك التحالف، بعد أن حول الجبهة ومقاومتها الوطنية إلى ورقة للمساومات الرخيصة والمبتذلة. وعارضنا الحزب الشيوعي عام 1985 حين طرح شعار تحويل المقاومة إلى ثورة وطنية ديمقراطية، ليشكل هو ضمانة نجاحها، لأننا لحظنا أن ذلك لا يمثل أكثر من هروب إلى الأمام، وأن الحزب لم يكن قادراً على رؤية التطورات التي كانت تشير إلى تراجع العمل الوطني المقاوم، نتيجة طغيان المد الطائفي والمذهبي. وها نحن اليوم ننصح الأحزاب والقوى الحريصة على الاحتفاظ بصفتها الوطنية ان ترجع إلى جماهيرها وتنسحب من مأزق الضياع الذي تعيشة، مع اننا لا نتوقع استجابة لدعوتنا.
لقد كان نهج الحزب الثابت، أن يبقى ملتزماً بإطار الحركة الوطنية، وعدم الانعزال عنها. بيد إننا لحظنا أن تطورات الأحداث بدأت تجنح نحو تهميش الحركة الوطنية وعزلها عن جماهيرها. وكانت تلك الملاحظة وراء معارضتنا لدعوة الحزب الشيوعي عام 1985 للثورة. إذ اعتبرنا ذلك الطرح أوهاماً وأحلام عصافير. ومنذ العام ١٩٨٦، لحظنا الضياع وانعدام المهمة النضالية الوطنية فمقاتلة العدو الصهيوني في الجنوب، باتت موقوفة على القوى الطائفية والمذهبية، ومحرمة على اعضاء الأحزاب التقدمية، وأصبح الوطني الذي يمارس القتال ضد الاحتلال، معرضاً للاتهام بالخيانة، علاوة على مصادرة سلاحه ومطاردته. وبات حمل السلاح ومقاتلة الصهاينة، يصبان في طاحونة بناء الكانتونات الطائفية والمذهبية وتبرير وجود الأحزاب والقيادات على رأس أحزابها. ومعلوم فإن كلتا الجهتين لا تحرران مظلوماً ولا تهزمان عدواً ولا تحلان أزمة. وليس بوسعهما، غير التعايش مع الأزمة وتكريسها على حساب الجماهير الكادحة، ومن أجل نهب قوتها واستغلالها. وقد أكد لنا، ما لحظناه، حينذاك أن القاعدة النضالية، التي تمثل العنف الثوري المسلح رداً على العنف الفاشي، قد انهارت ولم تعد الممارسة انطلاقاً منها ذات جدوى. حتى اتضحت أمام أنظارنا حالة الضياع التي باتت الحركة الوطنية تعيشها. وكان الفضل بتلك الرؤية، يرجع للأزمة المالية، التي بدأنا نعيشها. إذ كنا أمام واحد من خيارين اما متابعة المسلكية السابقة، وما يترتب عليها من أعباء مالية، وأما العمل على خفض المصروفات، وجعلها مطابقة للواردات، تلافياً للأزمة ومتابعة للسير بطريق الالتزام الثوري الذي نشأ الحزب عليه. ولكي نحدد الاختيار، كان لزامنا علينا أن نلقي نظرة ثاقبة على الوضع العام، من جهة، وأن نتفحص الوضعية الداخلية للحزب، من جهة أخرى، فتأكد لنا تماماً أن الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية غاطسة بمستنقع الضياع والتخبط، وأن الحزب قد بات مثقلا بتركة مرحلة أفلة ولا مجال لاستعادتها.
فكيف تصرفنا حيال النتيجة التي دلت عليها عملية الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية؟
للإجابة على هذا السؤال، سأسمح لنفسي بترك التقارير التي قدمها المكتب السياسي الوطني، واجازتها اللجنة المركزية الوطنية وأقرها المجلس الحزبي العام (الكونفرانس)، في أواسط العام ١٩٨٦، تتحدث عن كيفية تصرفنا حيال النتيجة التي أشارت إليها عملية الاستطلاع تلك: يقول تقرير المكتب السياسي الوطني بعد حديثه عن وضع الحزب الداخلي: ” أن الحزب يقوى بتطهير نفسه، هذه مقولة علمية، قالها لاسال منذ القرن الماضي، وجاء لينين ليؤكد عليها ويكرسها لتكون قاعدة تنظيمية من قواعد صيانة طليعة الطبقة العاملة من كل ما يعلق بها ويشوب حركتها وممارساتها من شوائب انعكاس حركة الواقع الموضوعي عليها، ولكن كيف يقوى الحزب بتطهير نفسه طالما أن عملية التطهير قد تخفض عدد عضويته وتقزم مساحة انتشاره وتضاؤل فعالية حركته ونشاطه؟
إن الاجابة على هذا السؤال، عادت بنا لما تعلمناه من دراستنا للمادية الجدلية، وعلاقة قوانينها العامة بمقولاتها ومفاهيمها، ففي العلاقة بين مفهوم ” التطهير” الذي هو ” ضعف” اذا ما نظرنا للأمر من الناحية الكمية، وبين “القوة” التي هي “نوعية” إذا ما نظرنا للموضوع من ناحية طبيعة الفعالية وانعكاس نتائج الممارسة العملية على مضمون الالتزام الفكري الذي يعبر عن نوعية العقيدة الكفاحية للحزب!..
إذا ما نظرنا لمقولتي “القوة” و “التطهير” من منظار فلسفي مادي – جدلي، فسنلحظ أن التطهير لا يمكن أن يؤدي للقوة إلا إذا اقتضته الضرورة الموضوعية، أي أنه مرتبط بتطورات الأحداث وطبيعة الآفاق التي تبلغها أو تجنح إليها، وبدون مراعاة هذه الناحية القانونية الجدلية، فإن عملية التطهير ستتحول إلى عملية تهميش للطليعة وتعجيز لها قد يعرقل حركتها ويشل فعاليتها. وعلى سبيل المثال فإن الاستخفاف بالكم وقت الانتفاضات الشعبية، من شأنه أن يحول الانتفاضة إلى فعل محدود من أفعال الطليعة، في وقت تدعو فيه الحاجة إلى حشد الجماهير في مواجهة اعدائها، والأمر نفسه يقال عن الاضرابات والمظاهرات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، وكذلك الحال في الانتخابات حيث تكون للأصوات قوة فعالة في احراز الانتصار وفرض قوى الطليعة الشعبية. ولكن فعالية ” الكم” تفقد زخم جدواها في ظروف أخرى، لعل أهمها يتمثل في عدم كفاية نضج وعي الجماهير لأهمية المشاركة النشطة في الفعل المطلوب، أو عجزها ـ بسبب التطورات اللاحقة – عن ادراك أهمية استمرار المشاركة الفعالة، في متابعة صنع الفعل. ففي مثل هذه الظروف يتحول
” الكم ” إلى عامل احباط للمعنويات وارباك للوضع. ولعل ما نلحظه من فارق بين حالتي الوضع في كل من مخيم شاتيلا ومخيم البرج، يوضح كيف تحول ” الكم ” في الأخير إلى عبء مرهق للمقاتلين، رغم أن كلا المخيمين يعيش الوضع ذاته.
وإذن، فإن العلاقة بين “القوة ” التي تتجلى بنوعية الفعل و ” التطهير ” الذي يستهدف تحرير النوعية من طغيان “الكمية “، يكشف لنا أن ظرف التطهير يتمثل بتحول “الكم ” إلى عائق يرهق حركة الطليعة ويؤثر على صلابة التزامها بنوعية عقيدتها، ارهاقاً وتأثيراً يتطلبان التقليل من حجم ” الكمية ” من أجل المحافظة على إصالة ” النوعية “، لكي تتابع الطليعة السير بطريقها الثوري بدون ارهاق وترهل. ولعل الأمر هنا يتعلق بمقولة لينين المعروفة لدينا جميعاً:” لا يمكن متابعة السير إلى أمام دون أن نصفي هذه المرحلة تصفية كاملة”.
” إننا حزب يلتزم بنظرية المرحلية التي تدعونا لمتابعة الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية. ولدى مراجعة تطور وضع الحزب الداخلي نلحظ ان انعکاس تفاقم أزمة الوضع العامة عليه، قد أفرز نوعين من الكوادر في تركيبه القيادي العام: كوادر تناضل لكي تبرز وتأكل وكوادر تأكل لكي تضحي وتناضل.
واضح أن تصوير حالة الحزب بهذا الشكل ينطوي على مبالغة ولكن الرغبة في جلب الانتباه لضرورة المعالجة، التي دعت لتضخيم الصورة ومن يعوزه في جلب الانتباه لضرورة المعالجة، هي التي دعت لتضخيم الصورة ومن يعوزه الإدراك لهذه الضرورة، فإننا نجلب انتباهه الى أن معالجة المرض وهو في مرحلة عوارضه، أسهل وأجدى من معالجته وهو في مرحلة تفاقمه واستعصائه. ولمزيد من الاقتناع دعونا نلفت لتضخم النفقات المالية في وقت يعيش فيه الحزب أزمة مالية بسبب انخفاض الورادات وطغيان المصروفات فكوادر الحزب الاساسية عامة وأعضاء المكتب السياسي الوطني على وجه الخصوص، هم المسؤولون عن تنظيم مالية الحزب والحيلولة دون ارهاق صندوق الحزب المالي المركزي. لذلك يبتدي للعيان أن الجانب “الكمي” في وحدة وعي الحزب الجدلية العامة، قد بات طاغياً على جانبها “النوعي”!..
صحيح أن الوضع المعيشي صعب جداً، مما يسبب ضغطاً مالياً على كادر الحزب المتفرغ، يدفعه للمطالبة بزيادة مخصصاته. وصحيح أيضاً، أن هذه المطالبة وجيهة بحكم محدودية المخصص وعدم كفايته لمستوى العيش الكفاف. ولكن المسلكية غير الصحيحة، لا تتمثل بمجرد المطالبة من أجل التخفيف عن كاهل مجموع الكادر الحزبي المتفرغ وانما تتمثل بجنوح بعض الكوادر الاساسية المسؤولة لتكبيد مالية الحزب مصروفات غير ضرورية، أو السماح بالصرف غير الضروري، او اهمالها للمراقبة وتنظيم عملية التوازن بين المصروفات والواردات. ففي هذه المسلكية تتبدى أمام انظارنا حالات ضحالة في وعي ضرورة التحلي بمقومات المناقبية الثورية التي تدعو للايثار والتجرد من الانانية وتقديم مصلحة الحزب على المصلحة الشخصية. ان الكادر المسؤول الذي يناضل من أجل زيادة مخصصة دون مراعاة وضع رفاقه الآخرين والذي يحاول الحصول على ما يخفف عنه ويرهق الحزب، أو الذي يكبد الحزب مصروفاً لا تدعو الضرورة له، أو الذي يهتم بالوجاهة والمركز في وقت يلتزم فيه الحزب بمقولة الاستشهاد الثوري لخدمة القضية وتخليد الذات في سبيلها… إن هذه الانماط من الكوادر تعاني من ضحالة في وعيها إن لم تكن متخلفة وغير جديرة باشغال مراكز القرار والتوجيه والقيادة في حزب العمل الاشتراكي العربي… حزب التحرير والديمقراطية والاشتراكية والوحدة والتضامن البروليتاري الأممي.
لقد قدم شهداء الحزب ارواحهم فداء للقضية التي انوجد حزب العمل الاشتراكي العربي، من اجلها، ولم يقدموها في سبيل صنع أو تأكيد زعامة أو وجاهة يتربع عليها هذا الكادر أو ذاك، كما هو الشأن في الأحزاب الاصلاحية. لذا فإننا نبادر لمعالجة ظاهرة مرضية تحمل في ثناياها خطر ارهاق حركة الحزب وافراغ نهجه الثوري من مضمونه.
إن كادراً مسؤولاً من كوادر حزب العمل الاشتراكي العربي، يسمح لنفسه بالانجرار نحو مواقع الوجاهة والزعامة الاستعراضية لا يمكن أن يقنعنا بأنه ما يزال أميناً لدماء الشهداء، إذا ما عمل بوعي واصرار على جعل انزلاقه نهجاً بديلاً لنهج الحزب الثوري.
كما أن كادراً مسؤولاً من كوادر حزب العمل الاشتراكي العربي، يرتاح لضمان مصلحته الخاصة على حساب مصلحة الحزب، لا يمكن ان يقنعنا بأنه يرى قضية الحزب وبالتالي الشعب بوضوح يتناسب مع طبيعة التزامنا العقائدي بنهج الشيوعية من طراز جديد… نهج الاستشهاد الثوري لخدمة القضية وتخليد الذات في سبيلها. لذلك فإن الضرورة تدعو لردع الأول وتوعية الثاني.
وإذن، فإن المسألة تتعلق بحاجتنا الماسة لتطهير وعينا مما يرهقه بغية اعادة التوازن بين جوانبه الكمية والنوعية. لذا فإن الالتزام بالقضية ومتابعة السير في طريقها يحتمان علينا مراجعة تطورنا الداخلي بغية ردع النزوع نحو الإنحراف وتصفية ظواهره. ومن اجل ان نتفهم وضعنا الداخلي بشكل افضل لا بد من العودة للظروف التي أدت للحالة الراهنة التي يعيشها حزب العمل الاشتراكي العربي في لبنان اليوم”.
كلنا يعلم أن ممارسة الحزب للمراجعة النقدية الجذرية خلال فترة التحضير للمؤتمر الوطني الثاني، قد ارتفعت بوعي الحزب للدرجة التي انضجت الظرف لعقد المؤتمر. وبفضل ذلك المستوى المتطور الذي بلغه وعي الحزب. تمكنا من تنظيم حركة الحزب بصورة جيدة خلال فترة ما بعد المؤتمر حتى نشوب الحرب الخامسة!..
واذن، كان وضعنا الداخلي على درجة جيدة من التنظيم، ساعدتنا على المساهمة بتنظيم مقاومة الاحتلال الصهيوني، والمشاركة بالمعارك التي خاضتها قوى الموقف العربي الوطني. غير أن الظروف التي خلقتها الحرب بقدر ما مكنت الحزب من لعب دوره النضالي ونسج علاقات عربية على اساس معارضة التسوية للقضية الفلسطينية ومقاومة المستسلمين من دعاتها… إن تلك الظروف قد اضطرت قيادة الحزب، أي اللجنة المركزية الوطنية، الأمر الذي افقد حركة الحزب ميزة الخضوع للمراقبة المالية. التي اجتمعت في بيروت بعد انسحاب المقاومة الفلسطينية، لتجميد النظام الداخلي طيلة ما يقرب من سنة ونصف السنة في منظمات بيروت والجنوب والشوف، وتعطيل العمل بالخطط التنظيمية ، بكافة المنظمات الحزبية، حتى عام 1985، فاختل العمل بالموازنات، وبات الصرف يعتمد على تقارير مسؤولي المنظمات، بعد أن كان الاشراف للجنة المالية المركزية.
منذ ما يقرب من عام ونصف العام، عادت اللجنة التنظيمية للعمل، عودة بدأ الجهد معها ينصب على تنظيم الخطط وإخضاع حركة المنظمات الحزبية لمنطوقها. وتحت وطأة الأزمة المالية شكل المكتب السياسي لجنة مالية قامت بتدقيق مالية المنظمات، وقدمت تقريراً اظهر الحاجة الماسة لاتخاذ اجراءات تنظيمية ووضع قواعد لضبط المسلكية العامة وردع الممارسات الضارة بالحزب وبالقضية التي يناضل في سبيلها».
وبعد أن يستعرض التقرير الاخطاء والتجاوزات على الأصول المالية والتنظيمية، يحدد عدداً من القواعد والأسس المستخلصة من التجربة، موضوعة المعالجة، فيقول:
” لا ريب في أن العناوين التي طالعناها في أعلاه. لا تمثل سوى الجوانب السلبية بوضعنا، وقد تعمدنا حصر النقاش حولها، دون الجوانب الايجابية، لأن اجتماعنا لم ينعقد من أجل المراجعة وتحديد جوانب الظاهرة التي نمثلها كلها، وإنما نحن بصدد ردع ميول الأنانية والوجاهة والنفعية والانتهازية. لذا فإننا نرى:
1 ـ ان عدم تحديد الكمية المستلمة من المجلة ( الثوري ) وبقية المطبوعات يجعل امكانية تحديد الكمية المباعة مستحيلة، مما يؤدي لفسح المجال للتلاعب بعائداتها المالية، سواء تعلق الأمر باثمانها أو بالزيادة الناجمة عما يدفعه القراء زيادة على اسعارها، من جهة، فضلاً عن أنه يجعل تحديد كمية المرتجعات بدقة مستحيلة، من جهة ثانية، غير أن الأهم من هذا كله يتجلى بكون عدم تنظيم هذه العملية، حتى لو كان بدون قصد سيىء أو غرض نفعي، فإنه يحرك نوازع الغش والتلاعب التي هي وسائل الأنانية والنفعية والانتهازية، التي يفسد عيشها بين أوساطنا الحزبية وعي كادرنا الحزبي وينخر صلابة التزامه ويعبث برسوخ ايمانه، من جهة ثالثة.
۲ – ان عدم اشراف مسؤول المطبوعات على ” الثوري ” وبقية الأدبيات. كما أن عدم اهتمام مسؤول المالية بتنظيم مالية المنظمة، يعني أن اعضاء لجنة المنطقة لا يهتمون باداء المهمات على وجه الدقة، مما يجعل التسيب والاهمال يطبعان عملها.
3 ـ إن السماح لمسؤول المطبوعات بتوزيع الادبيات بما فيها الثوري على اعضاء المراتب الحزبية التي ليست له علاقة تنظيمية مباشرة معها، كما هو الحال في منظمة(…)، أمر يجعل ضبط عملية المطبوعات مستحيلة، بحكم انعدام اشراف اللجنة عليها. وتبعاً لذلك فإن المحاسبة للمسؤول من قبل اللجنة تصبح غير ممكنة. علماً بأن الاصول التنظيمية تحدد العلاقة باعضاء اللجنة، فقط: يسلمهم الكميات ويستلم منهم أثمانها.
4 – إن عدم انتظام توزيع المطبوعات والمحاسبة عليها يجعل من الخطة مجرد يافطة ويفرغ التخطيط من مضمونه. كما أن اعداد التقارير التنظيمية وفقاً للاستمارات دون رقابة ودون استناد إلى التقييم الذي يجري في المراتب الحزبية… إن هذا الأسلوب ينطوي على احتمال ان تكون الاستمارات مزيفة أو شكلية، مما يجعل التقرير غير صالح للقياس واظهار حقيقة دور المنظمة وجوهر نشاطها.
ه ـ إن الاحتفاظ بمبالغ من أثمان المطبوعات لدى المسؤولين، بدون مبرر، أمر يستوجب المحاسبة والمعاقبة. كما أن انعدام الرقابة على عملية توزيع واسترجاع ثمن المطبوعات، أمر، فضلاً عن كونه يتيح للتسيب والاهمال والتلاعب، ان يتفشوا بأوساطنا، فإنه يحدث انعكاساً سلبياً على وعي الاعضاء لذلك ينبغي الاهتمام بملاحقة توزيع المجلة وسائر المطبوعات واسترجاع أثمانها وكل العائدات المالية منها، أولا بأول من قبل اللجان.
6 ـ ان عدم تنظيم عملية بيع الادبيات، يكشف سبباً أساسياً من أسباب فشل الحلول والمعالجات لوضع المنظمة في أحد المنظمات.
إن اللجنة المسؤولة وعلى رأسها المسؤول الأول يتحملون مسؤولية الاهمال والتسيب واللاأبالية وفشل المعالجات لوضع حد لتدهور المنظمة هناك.
7 ـ يجب التمييز لدى احتساب واردات المنظمات، ما بين الواردات الفعلية وغير الفعلية حتى يظهر الدخل الحقيقي الناجم عن جهد المنظمة الفعلي، وفي هذا المجال لا يجوز اعتبار أثمان المطبوعات واردات فعلية، ويجب فصلها عن مالية المنظمات وتسليمها إلى لجنة الاعلام المركزية، لأنها اموال مدفوعة من ماليتها. ولكن، يتوجب، في هذه الحالة، أن تحدد نسبة مئوية لا تقل عن نصف الارباح للمنظمات من عائدات المطبوعات.
۸ ـ ان يتحول مسؤول المنظمة، كما هو الحال في (منظمة أخرى)، إلى أمين للصندوق المالي، ممارسة من شأنها أن تعطل دور المسؤول المالي من جهة، وان تفسد القدوة للتربية النظامية من جهة أخرى. كما أن الاهمال وعدم تنظيم المالية، يؤديان إلى التبذير وسوء التصرف، وقد قيل ان المال السائب يعلم الناس الحرام.
لذا ينبغي ضبط العائدات المالية حسب الأصول التنظيمية وعدم التصرف بها كيفياً.
9 – يجب استقطاع اشتراكات المتفرغين من قبل المالية المركزية مباشرة لدى دفع مبالغ الموازنات السنوية، لأن المتفرغ طاقة معارة من المركز إلى المنظمة.
10ـ إن الأموال التي ترد للمنظمات الحزبية من مصادر الحلفاء يجب ان تدخل لمالية الحزب المركزية ولا يجوز ادخالها لمالية المنظمات، لان دمجها بواردات المنظمات من شأنه ان يعرض نشاط المنظمات وحركتها للشلل في حال انقطاع هذه المساعدات من جهة، ويعرض المالية المركزية للارباك لدى اضطرار المنظمات لطلب سد حاجتها المالية، مـن جهة ثانية، فضلاً عن أنه يظهر واردات المنظمات بشكل زائف وغير حقيقي، الأمر الذي يضعف الحوافز الداعية لزيادة الواردات الفعلية من جهة ثالثة.
إن المنظمة التي تتمكن من الحصول على مساعدات مالية نتيجة نشاطها النضالي، يجب ان تغطي المالية المركزية نفقات نشاطها.
11ـ لا يسمح للمنظمات بادخارات مالية لتغطية نشاطها النضالي، اكثر من سلفة مقررة ومحددة سلفاً.
۱۲- تحدد سيارة واحدة لكل منظمة حزبية، وتلغي كافة السيارات الفائضة. وكل حاجة تدعو لخلاف ذلك لا تلبي الا بقرار من اللجنة المالية المركزية ومصادقة المكتب السياسي الوطني.
۱۳- لا يجوز صرف الفواتير المالية الا بعد المصادقة عليها من قبل لجنة المنطقة، تحت طائلة المسؤولية النظامية، ولا يجوز اتلافها الا بقرار من اللجنة المالية المركزية ومصادقة المكتب السياسي الوطني.
١٤ ـ ان مسؤولية الحفاظ على الممتلكات عامة والسيارات خاصة تقع على عاتق المنظمة عامة والمسؤول المباشر عنها خاصة.
15 ـ ليس مسموحاً باتلاف اعداد ” الثوري ” المرتجعة بدون قرار من لجنة الاعلام المركزية. كما يمنع التوزيع المجاني زيادة عن الاعداد المقررة بدون قرار مركزي. 16- لا يمكن أن تستقيم عملية تنظيم المالية، بدون الفصل التام بين المالية المركزية ومالية المنظمات.
17- ينبغي فصل مالية المنظمات الجماهيرية عن مالية المنظمات الحزبية وتنظيمها وفقا لموازنات خاصة بها.
18ـ ضرورة الوقوف امام المفارقة بين المتفرغين وغير المتفرغين من حيث نسبة اداء المهمات والثبات والتضحية، ومعالجتها.
19- يجب على المنظمات اجراء قطع حساب شهري، ولا يصادق على موازناتها قبل انجاز قطع حساباتها السنوية.
« ان امراض الاهمال والتسيب والانانية والنفعية، والانتهازية بدأت تتسرب الى صفوف بعض منظمات الحزب، بداية باتت تهدد مضمون مناقبيتنا وجوهر مسلكيتنا، فهذه الأمراض، لا تمت بصلة للخصائص والخصال البروليتارية، الأمر الذي ينذر نهجنا بالتعرض للترهل والانحطاط والتحول إلى الاصلاحية، فيصبح حزب العمل الاشتراكي العربي مجرد رقم يضاف لارقام احزاب الانانية والوجاهة والنفعية والانتهازية!…
صحيح ان الامر لم يبلغ مرحلة الاستعصاء على المعالجة، ولكن مجرد تسرب خصال البرجوازية وخصائصها الى منظمات الحزب التي يشرف عليها ويقودها اعضاء في اللجنة المركزية الوطنية ومكتبها السياسي الوطني، يعني ان قيادة الحزب قد اهملت واجباتها وأساءت للأمانة التي أودعها الشهداء لديها!..
إن الضغط المالي الذي تنوء حركة الحزب تحت وطأته، لم يكشف أن بعض الرفاق دون مستوى القدرة المطلوبة للعيش في ظل ظروف تفاقم الأزمة العامة وتفجرها، فحسب، وانما كشف أيضاً ان بعض هؤلاء الرفاق لم تعد مسألة التفرغ او الالتزام الحزبي، بالنسبة اليهم، قضية احتراف للكفاح الثوري الذي يتلخص جوهره بكونه تضحية بدون مقابل، وانما اصبحوا يرونها وسيلة عيش وارتزاق، ليس إلا. لذلك سمحوا لأنفسهم بالتصرف بأموال الحزب وممتلكاته اشباعاً لحاجاتهم وتلبية لرغباتهم. وما ان عمم المكتب السياسي الوطني قراره القاضي بالموافقة على انهاء تفرغ من يرغب بالبحث عن عمل خاص من الكادر المتفرغ تخفيفاً للأزمة المالية واتاحة فرصة لمن يشاء معالجة وضعه المعيشي العائلي… ما ان بلغوا بهذا القرار، حتى راحوا يثيرون لغطاً ينال من مصداقية الحزب ومبدئية التزامه بالوفاء لدماء الشهداء وللقضية التي استشهدوا من أجلها. فهم يعتبرون القرار تخلياً عن المتفرغين، اعتباراً يقولون معه: ” ان الحزب دعاهم للتفرغ يوم كان بحاجة اليهم. اما اليوم فإنه يتخلى عنهم ويتركهم يواجهون ازمتهم المعيشية لوحدهم”!..
إن أسئلة عديدة يثيرها، هذا الفهم للتفرغ، منها: من هو الحزب الذي دعاهم للتفرغ لحاجته إليهم. ثم من هم الذين تخلى الحزب عنهم وتركهم يواجهون أزمتهم المعيشية لوحدهم؟
إن هذا الفهم للتفرغ، لا يمت للإلتزام الثوري بصلة. فهل يصدق عاقل أن صاحبه، يمتلك استعداداً للاستشهاد لخدمة القضية وتخليد الذات في سبيلها؟
إذا كنا نفهم الإسهام بأداء المهام النضالية، تضحية بدون مقابل. وإذا كان الكادر المتفرغ ليس على استعداد لتحمل ضغط الفاقة والجوع، الذي هو أبسط أنواع التضحيات، فهل يمكنه أن يقدم حياته، التي هي أهم ما يملك؟
إن المتفرغ الذي لا يفهم أنه الحزب وأن الحزب هو، لا يصلح لأن يشغل موقعه باعتباره، متفرغاً. صحيح أن هذا التعريف يشمل اعضاء الحزب كلهم، بيد أنه ينطبق على المتفرغ، قبل غيره، لكي يكون المثال والقدوة، والا فإن سلوكه وتصرفاته ستترك انطباعاً سلبياً وسيئاً لدى اعضاء الحزب وجماهيره.
فإذا تجاوزنا هذه البدهيات. أفلا نلاحظ أن تفسير قرار المكتب السياسي الوطني بهذا الشكل، يعبر بفظاظة عن الأنانية والنفعية والانتهازية؟
ان الذين يرون التفرغ أو العضوية الحزبية مصدراً للعيش ووظيفة للارتزاق، هم وحدهم الذين يتجاهلون، كون القرار يمثل مراعاة للأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها بعض الكوادر على حساب المصلحة الحزبية. ذلك أن حركة الحزب العامة ونشاطه النضالي، يزدادان بازدياد كادره المتفرغ ويضعف مع قلة المتفرغين. إن الكادر الذي يتصرف بمالية الحزب اشباعاً لحاجاته الخاصة، في وقت تعاني فيه المالية المركزية ضغطاً مالياً. كما أن الكادر الذي يكلف الحزب مصروفاً مالياً لا مبرر له أو يمكن تلافيه، لا بد أن يجلب انتباهنا لدرجة الانحراف عن النهج والابتعاد عن جوهر الالتزام العقائدي، التي بلغها!..
إذا كان حسن ادائنا للمهام النضالية يعتبر تضحية بدون مقابل. فأي نوع من الهموم، هذا الذي يدفع كادراً متفرغاً للتصرف بممتلكات الحزب، أو تكبيده مصروفات مالية من شأنها أن تعرقل الجهود الرامية لجعل الحزب يتكيف مع حجم وارداته المالية، لكي يحصن نهجه من الخضوع لقاعدة ” من يدفع يسير “؟
إن الحزب يعاني ضغطا مالياً نتيجة ارتفاع النفقات وطغيانها على الواردات. وفي مثل هذه الحالة، فإن قيادة الحزب، لا تجد أمامها غير واحد من خيارين: أما أن تترك النفقات تلتهم رصيد مالية الحزب المركزي، وتعلن بعد ذلك تخليها عن مسؤولياتها وانصرافها لترتيب أوضاعها المعيشية الخاصة، وأما أن تبادر للمعالجة بالوسائل المتوفرة لديها، وأولها وضع كادر الحزب عامة والمتفرغين خاصة بصورة الوضع ودعوتهم للمشاركة بحلها. وطالما أن الجهد المبذول للمعالجة يستهدف حصر النفقات وتخفيضها للمستوى الذي تصبح معه الواردات قادرة على تلبية الطلب وسد الحاجة، فلا بد أن تنصرف المعالجة لالغاء السيارات والمكاتب ووضع حد لسوء التصرف المالي واعادة النظر بعدد المتفرغين ودعوتهم لايجاد عمـل يوفر للحزب مخصصاتهم ومصروفات معالجاتهم وتكاليف دراسة أولادهم ويرفد المالية المركزية باشتراكاتهم. فأين هو الخطأ وأين هي الخطيئة، في قرار المكتب السياسي الوطني، يا ترى؟
إن اثارة هذا اللغط حول القرار، يؤكد الحاجة لتطهير صفوف الحزب ممن باتوا يفهمون التفرغ والتثبت في المراكز القيادية، وجاهة ومنفعة وارتزاقاً. ورغم أن عدد هذا النمط قليل بين صفوفنا، بيد أن مجرد وجودهم بين اوساطنا واستمرارهم بالممارسة الخاطئة وشكواهم من ضنك حياة التقشف التي نعيشها، تبريراً لتجاوزاتهم وتغطية لانحرافهم، دون أن يثيروا احتجاجنا…ان وجود هذا النمط من الأنانية والنفعية والانتهازية برهان كاف على أن وعي الكادر المسؤول عن قيادة منظمات الحزب، قد بات مثقلاً بوطأة ضغوط عديدة تتنافى والمسلكية الثورية!..
لذا فإننا نرى الضرورة تدعونا لتنظيم مالية الحزب بضغط المصروفات وتخفيض النفقات للدرجة التي تجعل وارداتنا كافية لتغطية نفقاتنا، أولاً، وان نشن حملة شعواء ضد مظاهر ومفاهيم الوجاهة والزعامة والأنانية والنفعية والانتهازية بين أوساطنا، لكي نطهر صفوفنا منها ومن حملتها ان اقتضى الأمر، ثانياً، وان نطبق قرار المؤتمر الوطني الثاني بحق أي عضو يصر على العبث بنهج الحزب ومفاهيمه، من أجل مصلحته الشخصية، ثالثاً..
الحلقة الاخيرة
الجزء الثاني
تنشر ” الثوري ” فيما يلي الحلقة الأخيرة( ٢( من دراسة الرفيق أبو عدنان : سنبقى أوفياء .. وبها تنتهي.
وكانت الحلقة الماضية قد أكدت ” أن حزب العمل الاشتراكي العربي ، قيادة وقاعدة يدرك تماماً أنه لا يتحمل مسؤولية ترشيد العمل الوطن وتوجيهه ….” ومع ذلك كان يدلي بدلوه عندما تقتضي الضرورة.
وخلصت الحلقة الماضية إلى نتيجة مؤداها ” أن الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية غاطسة بمستنقع الضياع والتخبط وأن الحزب قد بات مثقلا بتركة مرحلة آفلة ولا مجال لاستعادتها.
كيف تصرف الحزب حيال تلك النتيجة ؟
لقد استعرضت الحلقة الماضية تقرير المكتب السياسي الأول الذي اجاب على السؤال الآنف … وتستعرض الحلقة الختامية التقرير الثاني .
أما التقرير الثاني ، فقد جاء فيه:
” لقد اجتمعت اللجنة المالية المركزية لدراسة موازنات السنة الجديدة ٩٨٦ – ۱۹۸۷ ، بعد التعديلات التي اجرتها لجان المناطق عليها ، تطبيقاً لقرار المكتب السياسي الوطني القاضي بضرورة تخفيض المصروفات لأدنى حد ممكن.وفي ضوء ما دار بإجتماعها ، رأت أن تتقدم إلى اللجنة المركزية الوطنية بواسطة المكتب السياسي الوطني بتقريرها التالي:
أولاً : معلوم لدينا جميعاً بأن ظاهرة العمل الثوري المنظم لا يمكن أن تظهر إلى الوجود ما لم يبلغ الظلم درجة من الطغيان تدعو لمقاومته ، وأن الشعور بضرورة مقاومة الظلم مرحلة تنشأ باحشاء مرحلة سابقة يتجلى خلالها الشعور بالظلم حتى يصبح جزءاً من حركة الواقع الموضوعي العامة . ولكن مرحلتي : شعور الكادحين بالظلم والشعور بضرورة مقاومة الظلم ، تتسمان بالعفوية التي تعكسها ممارسة القوى الاجتماعية السائدة، والعاجزة عن مواكبة التطور وتلبية متطلباته المستجدة ، اما ظاهرة العمل الثوري المنظم ، فإنها تتسم بالوعي والتنظيم بحكم كونها انعكاساً لحركة الطليعة الطبقية الواعية والمنظمة . غير أن حركة العمل الثوري ، رغم أنها حركة واعية ومنظمة ، فإنها تتأثر بحركة الكائن الاجتماعي العامة والوعي الاجتماعي المعبر عنها ، تأثراً ناجماً عن العلاقة الجدلية بين الحركتين .
وكلما كانت أزمة القوى الاجتماعية السائدة ، اكثر تفاقماً ، كلما كانت وطأة التأثير السلبي على حركة الطليعة اضعف وأوهن ، وكلما كانت الطليعة انضج وعياً ، كلما كانت حصانتها من مؤثرات الانعكاس السلبية . أقوى وأمنع. فإذا غضضنا النظر عن حجم تاثير كل من الحركتين على بعضهما.فلا بدّ من الإدراك لكون التأثير واقع لا محالة. سواء كانت نسبته السلبية كبيرة أم صغيرة، وسواء كانت درجته قوية أم ضعيفة . ولكن ماذا يعين ادراكنا لهذه البديهية الموضوعية؟
أن ادراك الطليعة لتأثير حركة الواقع الموضوعي السلبي عليها ، يجعلها يقظة ومدركة لضرورة مواجهة ، مواجهة الإنعكاس السلبي على حركتها ، وبناء التعاليم اللينينية . ولما تعلمنا من تجربتنا الخاصة . فإنّ مواجهة الانعكاس السلبي، تتطلب مراجعة نقدية جذرية تتكفل بكشف ما هو سلبي في حركة الطليعة. ووضع حد له وتحويله الى درس يهدي الحركة خلال المرحلة اللاحقة.
إن المؤثرات السلبية على حركة الطليعة ، تلحظ أكثر ما تلحظ ، خلال المنعطفات التاريخية التي ترسمها حركة الواقع الموضوعي. وكلما واجهت الطليعة ظروفا نضالية جديدة ، وكلما خاضت تجربة كفاحية جديدة ، فإنها مطالبة بالمراجعة النقدية الجذرية ، لكي تتمكن من استخلاص اهم دروس تجربتها الخاصة .
ثانياً : لقد بات الحزب كله قاعدة وقيادة ، يسلم بالأزمة المالية التي تعيشها . وقد باتت هذه الأزمة معروفة ، بفضل ما عممه المكتب السياسي الوطني وما اتخذه من اجراءات لمعالجتها ، بيد أن ذلك كله لم ينجح بتحرير حركة الحزب من وطأة هذه الأزمة ، فالواردات ما تزال أقل حجما من المصروفات ، ومع استمرار زيادة الصرف على الوارد ، فإن الأزمة تبقى قائمة ومستمرة ، واذن فإن قيادة الحزب ممثلة بالمكتب السياسي الوطني قد بانت عاجزة عن معالجة الأزمة رغم تسليمها بها ورغم تأكيدها المستمر على مخاطرها وتهديدها لمستقبل الحزب ، فما هو التفسير لهذا العجز ، وما هي المعالجة المطلوبة لردع الأزمة وتحرير حركة الحزب من وطئتها؟
إن التفسير المنطقي للعجز ، لا بد أن يلحظ كون المكتب السياسي الوطني غاطس في بؤرة الأزمة وغير قادر على انتشال نفسه وانتشال الحزب معه ، ولو لم يكن الأمر هكذا ، لكان نشوء الأزمة المالية مستحيلا ، بيد أن التسليم بهذه الحقيقة لا يعني أن ظاهرة العجز مطلقة ، ولا حل لها ، فلو كانت مطلقة ولو كان العجز مستفحلاً ، لتجلي بعجزه عن دعوة اللجنة المركزية الوطنية والمجلس الحزبي العام( الكونغرس) ، للوقوف أمام الأزمة ومعالجتها ، ولكن كيف يعجز المكتب السياسي الوطني عن معالجة الأزمة وهو القيادة اليومية الموجهة والمرشدة لحركة الحزب بين اجتماعي اللجنة المركزية الوطنية ، لو لم تكن الأزمة ازمة وعي متخلف تعانيها حركة الحزب العامة .
فإذا كانت الأزمة تتعلق بمستوى وعينا المنظم ، لا بد أن تكون المعالجة التي نقترحها تنطلق من كون الأزمة المالية ، ما هي إلا مؤشر لتخلف الوعي ، مما يدعونا لتصحيح الفهم الذي يعتبر الأزمة مالية صرفة .صحيح انها أزمة النمو ليست أزمة الشيخوخة ، ولكنها مظهر من مظاهر تطور تجربة الحزب منذ العام ١٩٨٢ ، حيث نشأت ظروف جديدة ، أتاحت للحزب ان يخوض غمار تجربة جديدة . خوضاً ادى لاتساع دائرة نشاطه ، وجعله يسهم بفعالية اكبر من فعاليته التي سبقت الحرب ، فاغتنت تجربته وارتفع مستوى وعيه ، لدرجة ما كان الا ان تخلق تفاوتاً في الوعي بين كوادره التي خاضت التجربة ، بصورة عامة ، وبين كوادره المتفرغة ، على وجه الخصوص.
ثالثاً : اذا سلمنا بما تقدم ، فلا بدّ أن نبحث عن مقياس للحكم تلحظ بفضله الكوادر التي تعاني من وطأة تخلف وعيها ، لتميز بينها وبين الكوادر التي تؤكد التجربة على مواكبتها لحركة تطور الوعي الحربي المنظم ، فما هو المقياس يا ترى ؟
إننا نسلم بكون حزبنا يعاني أزمة مالية . وإن كل أعضاء الحزب عامة… وكوادره خاصة ، مطالبون بالمشاركة في معالجة الأزمة وتمكين الحزب من تجاوزها ، ونظراً لكون الكادر هو المسؤول اساسا عن نشوء هذه الأزمة ، وبالتالي فهو المطالب بمعالجتها وردعها ، لكي لا تطفي وترهق وفي الحزب بوطاتها ، فإن المقياس يتمثل باعتبار كل كادر معارض خفض المصروفات ويتمادي بتكبيد الحزب أعباء مالية لا قبل له على تحملها ، متخلفا عن فهم ظاهرة حزب العمل الاشتراكي العربي ، ومتحرفاً نحو الاصلاحية والوجاهة والنفعية.
فإذا كان الموقف من الأزمة المالية والنظرة اليها ، والمشاركة بمعالجتها وردعها ، هو المقياس الحكم على مستوى الكادر ومدى مواكبته لحركة تطور الحزب وضرورة استمراره ، وإذا كنا ندرك ان المالية ليست سوى مظهر للازمة .. وإذا كنا نقول أن الأزمة التي تعانيها ، ناجمة عن نمو وعي وليست تعبيرا عن شيخوخته ، فلا بد أن تحدد طبيعة الأزمة ، لنتبين فيما اذا كانت مستفحلة ومستعصية على الحل ، أم أنها مجرد مظهر للنمو بوسع كادر الحزب الحريص على استمرار دوره ومتابعة نهجه الذي تعمد بدماء الشهداء، ان يعالجها ويوجد الحلول الكفيلة بحلها؟
أن تكون الأزمة مستفحلة ومستعصية وغير قابلة للمعالجة ، فلا بد أن تكون شاملة لدرجة لو افترضنا معها انعقاد مؤتمر الحزب للنظر فيها ، لعجز عن ايجاد حل لها . ولكن افتراضاً كهذا ، لن يتحقق ما لم تبلغ الأزمة حداً يصبح اشغال المركز معه تشريفاً يناله الكادر وليس تكليفاً يتطلبه اداء المهام النضالية ، وفي هذه الحالة المفترضة فإن حزب العمل الاشتراكي العربي سيفقد مضمونه ويتخلى عن مهمته النضالية ويتحول إلى مجرد عنوان يضاف لعناوين الزعامة الشخصية والوجاهة الاجتماعية والنفعية والانتهازية والارتزاق ، فهل ان وضعنا الراهن يسمح بمثل هذا الاقتراض؟
لقد عاش الحزب أزمة في أواسط السبعينات وكان المال عاملها الأساسي ، رغم توفره . فحينذاك دب الفساد في صفوف الحزب بسبب التخمة المالية . ليتأكد القول المأثور : ” ان المال السائب يعلم الناس الحرام “، فعمدنا يومها إلى تخفيض موازنة الحزب الشهرية إلى النصف ، وكانت الحملة التطهيرية التي رافقت الاعداد للمؤتمر الوطني الثاني ، أدت إلى تساقط العديد ممن تجاوزتهم حركة تطور الحزب ، ومع ان عوامل أخرى لعبت دورها في تفاقم تلك الأزمة ، بيد ان المال كان أبرز الوسائل في حصولها ، وتتكرر الأزمة في أيامنا هذه ، بسبب عامل المال ، أيضاً ، ولكن الفارق بين أزمة الأمس وازمة اليوم يتجلى بكون الحزب انذاك كاد يتحول إلى مجرد حركة مساندة للجبهة الشعبية ، أما اليوم فإنه لا يعاني من الافساد الذي تسببه تخمة المال ، وانما هو يعاني من زيادة المصروفات على الواردات الفعلية ، الأمر الذي يجعل الأزمة محصورة بوجود الكوادر التي تعارض خفض المصروفات حفاظاً على أوضاعها الخاصة التي كونتها أثناء أدائها لدورها القيادي في الحزب ، يوم أسس كان التلاعب والاختلاس ابرز مظاهر الأزمة . أما اليوم فإن الامتناع عن الاسهام بردع حركة الصرف و التمادي في تكبيد الحزب اعباء مالية لا قبل له على تحملها مظهرا الأزمة التي تعالجها …
إن الكادر الذي يقترف جريمة السرقة والاختلاس يكشف عن سقوطه في حضيض النفعية والانتهازية وتجرده من خصائص الالتزام الثوري ، اما الكادر الذي يمانع خفض المصروفات او يتردد عن الاسهام بمعالجتها ، فإنه يكشف عن تخلفه عن حركة تطور الحزب التي بلغت مرحلة مفهوم: ” الاستشهاد الثوري لخدمة القضية وتخليد الذات في سبيلها ” ، إن كادراً كهذا ليس متخلفا عن مستوى حركة تطور الحزب الراهنة ، فحسب ، بل انه يعاني من عدم فهمه للمقدمات النظرية والعملية التي أدت إليها.
إن اسهامنا بتشكيل جبهة المقاومة الوطنية ، وانخراطنا بصفوف مقاومة الاحتلال الصهيوني ، كانا ممارسة ثورية قادتنا لصياغة مفهوم ثوري يؤكد على ان :” بقاءنا هو الصدقة ، اما اعتقالنا او استشهادنا فهو الأمر الطبيعي ..
أن الكادر الذي ينظر لدوره النضالي بحركة حزب العمل الاشتراكي العربي، من خلال زوجته وأولاده ووضعه الخاص، لا يمكنه ان يواكب حركة تطور الحزب اطلاقاً . ذلك أنه يضع مصلحته الخاصة قبل مصلحة الحزب . وضعا يجعله عاجزا عن رؤية ما يضر الحزب ، فينجح نمو التردد من الاسهام في معالجة الأزمة المالية . والامتناع عن خفض المصروفات ، جنوحاً سيقوده حتما للارتماء بأحضان أعداء الحزب ، بحثاً عن منفعة أكثر ومال أوفر ، لأنه لم يعد يحترم المبادىء والمقدسات ولا تردعه رقابة أو عقوبات ، فينصرف جهده للمتاجرة بدماء الشهداء ، ويصبح همه بيعا وشراء !…
رابعاً: هذه هي طبيعة الأزمة التي يعانيها الحزب: هامشية وليست شاملة قابلة للمعالجة وليست مستعصية ولا مستفحلة ، وهذا هو المقياس لتحديد تخلف الوعي . ولكن هذا كله لا يصح أن يتجاهل أو يغفل وجاهة الرأي الذي يعتبر التفرغ احترافاً ثورياً ، وان انهاءه ، قد يعني انهاء دوره النضالي الثوري يعتبر فكيف يجب النظر لمثل هذا الرأي ، يا ترى ؟
إذا كان هذا الرأي يصدر عن رغبة في متابعة النضال على أساس الالتزام بالنهج الثوري … النهج الذي يعتبر اشغال المراكز تكليفاً وليس تشريفاً، فصاحبه لن يجد ما بیرر مخاوفه ، وكل ما يطلب منه ان يلتزم بخطة معالجة الأزمة المالية فقط ، وسيحتفظ بموقعه ودوره دون أي تغير ،
أما إذا كان صاحبه يقول حقاً ليبرر به منفعة شخصية او تشبثاً بموقع قيادي غير اهل لاشغاله ، فإننا نقول له: انك تفهم المعالجة للأزمة المالية ، باعتبارها عملية مالية بحتة . مما يجعلك عاجزاً عن الاسهام بمعالجتها ، ويدفعك لفهم انهاء التفرغ فهما خاطئاً ، لانك لا تنظر لعملية التفرغ باعتبارها اختياراً حراً للاحتراف الثوري ، وتحمل تبعات الالتزام به ، بل ان نظرتك تنطلق من مصلحت الشخصية ، انطلاقاً مدفوعاً بانتهازية رخيصة تجعل من وجودك بين كادر الحزب ، أمراً مسيئاً لنهج الحزب الثوري وسمعته بين أوساط الجماهير الشعبية!.
إن احتراف العمل الثوري أمر يختلف عن الحاجة المالية لتلبية العيش الضروري لاستمرار الحياة ، ذلك اننا لا نعيش من أجل أن نأكل ، كما هو شأن الحيوانات ، وانما نأكل لكي نعيش للقضية واستمرار الكفاح في سبيلها ، مما يجعل المخصص المالي حاجة يتطلبها استمرار النضال ، وليست منفعة يجنبها المناضل من تفرغه . فإذا فهمنا التفرغ باعتباره احترافاً للعمل الثوري ، فإن المسألة تصبح مراجعة جذرية لتجربة الحزب خلال الظروف الجديدة والتجربة الكفاحية التي خاضها منذ الحرب الخامسة حتى الآن ، بغية تطهيره من الظواهر السلبية التي أفرزتها حركة تطور الحزب والتي تكشفها الأزمة المالية الناجمة أساساً عن انعدام الشعور بالمسؤولية ، ومن ينعدم شعوره بالمسؤولية الثورية ، يفتقد الرادع الالتزام الثوري الذي يمنعه من التمادي بالصرف وتكبيد مالية الحزب أعباء مالية يمكن تلافيها .
لقد كان كادر الحزب يمارس نشاطه الحزبي دون مقابل مالي ولم تتجاوز مالية الحزب المركزية بضعة مئات من الليرات طيلة الفترة منذ نشوئه حتى عام ١٩٧٥ ، اما اليوم فإن مالية الحزب المركزية قد باتت مرهقة بقوائم ملايين الليرات المصروفات النقليات والسيارات والمرافقين والسواق وايجارات المكاتب والحراس والايجارات وفواتير الأدوية والمعالجة الطبية الخ .. لدرجة ان المصروفات المالية قد باتت هما يشغل اللجان الحزبية القيادية ويرهق وعيها.
إن الحزب لا يمكن ان ينهي الاحتراف الثوري ، طالما بقي ملتزماً بنهجه الثوري . وتبعاً لذلك فمن غير الممكن وغير المنطقي أن يتخلى عن كوادره الملتزمة بنهجه الذي يوفر لها اسهاماً نضالياً من أجل تحقيق التحرير والديمقراطية والاشتراكية والوحدة والتضامن البروليتاري الأممي . أما الذين يفهمون التفرغ وسيلة للعيش أو للوجاهة فهؤلاء ليسوا جديرين بأي اهتمام غير اعادة تثقيفهم ليدركوا درجة التخلف التي يرسفون في قيودها.
خامساً : إذا كانت الأزمة المالية التي يعانيها الحزب ، اليوم ، ناجمة عن نمو وعي الحزب ، وتخلف وعي بعضه ، فإن اللجنة المالية المركزية ترى في معالجة الأزمة فرصة مناسبة لتحرير حركة الحزب من هذا التخلف الجزئي الذي تعانيه ، وفي هذا المجال فإنها ترى في تراجع حركة الحزب النضالية ، شرطاً من شروط النجاح في بناء المنظمات الجماهيرية المناضلة ، ففي هذه المرحلة ينبغي انصراف المنظمات الحزبية لعملية البناء الجماهيرية ، انصرافاً سيخفف من وطأة الأزمة المالية ، من جهة ، ويسلح وعي الكادر الحزبي بمثال يساعد على كيفية الاعتماد على الذات ، ويتيح لحزبنا خوض تجربة تحوله إلى حزب جماهيري ثوري متمرد على قاعدة : من يدفع يسير ، من جهة أخرى.
بدون بناء المنظمات الجماهيرية لا يمكن ان تكون الطليعة جزباً جماهيرياً
إن ظاهرة العمل الثوري المنظم، تتسم بالوعي والتنظيم بحكم كونها انعكاساً
لحركة الطليعة الطبقية الواعية والمنظمة .
إن نظرة الحزب وتحليله للواقع الذي تعيشه الحركة الوطنية يؤكدان على حالة الضياع التي تعانيها ، وهذه ليست معضلة جديدة ، وإنما هي نتيجة للمرض المزمن الذي رافقتها منذ نشوئها في كنف الطوائف وبقائها ذيلاً لها . ومن الطبيعي أن تنتهي لحالة الضياع التي تعيشها اليوم ، بعد أن كبرت طوائف المحرومين والمغبونين والخائفين ولم تعد بحاجة لصوت الحركة الوطنية ومساندتها ، إن طليعة وطنية لا تمتلك مشروعاً للعمل الوطني لا بد أن يلفها الضياع حتى تمتلك مشروعها ، وفي ظرف الضياع هذا ، هل يبقى حزب العمل الاشتراكي العربي يتخبط في متاهة الضياع ، أم أنه مطالب بأن يتميز عن الأحزاب الاصلاحية بمنهجه الثوري الذي يرشد حركته ويوجهها نحو هدفها المرحلي وصولا لهدفها الاستراتيجي ؟
إن الافلات من واقع الضياع الراهن ، غير ممكن دون تراجع حركة الحزب النضالية لصالح حركته الديمقراطية وسط الجماهير ، ذلك أن تراجع حركة الحزب النضالية ، هو في جوهره تراجع عن حالة الضياع ، لكي ينصرف للتوجه للجماهير والنشاط بين أوساطها . إن الحركة الوطنية هي الاطار العام لنشاطنا النضالي ، وحين نفتقد هذا الاطار ، فإن التوجه نحو الجماهير يتكفل ليس بتعويض حركتنا عن اطارها الوطني العام المفقود ، فحسب ، بل إنه يتيح لنا فرصة خوض تجربة بناء الحزب الجماهيري ، وبدون شك فإنها تجربة غنية جدا وصعبة جدا ، في الوقت نفسه!
إن عملية بناء الحزب الثوري ثمر بثلاث مراحل التأسيس ثم البناء الطليعي وصولا للحزب الجماهيري ، وبما أن حزبنا قطع شوطاً بعيداً على طريق المرحلة الثانية ، فإنه مطالب بالانتقال للمرحلة الثالثة ، وبدون ريب فإن جماهيرية الحزب البروليتاري الثوري يمكن أن تتحقق بوسائل وأساليب عديدة ، فالكفاح المسلح ، مثلا وسيلة مجدية جداً لتعبئة الجماهير ، ولكن حتى هذا الأسلوب يحتاج للأطر التي تجعل من التعبئة الشعبية ، منظمة وهادفة.
إن الحزب البروليتاري الذي يبلغ مرحلة الطليعة ، سيعجز عن متابعة نهجه ما لم يدرك ضرورة تحوله إلى حزب جماهيري ثوري ، فمثلما تبقى عملية التأسيس مجرد عملية هامشية مالم ينجح المؤسسون ببلوغ مرحلة بناء الحزب الطليعي ، فإنّ قيادة الحزب التي تعجز عن ادراك الضرورة الداعية الى الانتقال لمرحلة بناء الحزب الجماهيري الثوري ، ستقود الحزب للإنحراف عن نهجه والتخلي عن تراثه والمساومة على دماء شهدائه.
إننا لا نعيش من اجل ان نأكل وانما نأكل لكي نعيش للقضية واستمرار الكفاح في سبيلها
ان ظاهرة العمل الثوري المنظم لا يمكن ان تظهر الى الوجود مالم يبلغ الظلم درجة من الطغيان تدعو لمقاومته
إنّ الناس اعداء ماجهلوا ومن يتربى على الالتزام الحزبي الثوري والانضباط الحديدي لا بد أن يواجه صعوبة جمة في ميدان العمل من أجل بناء المنظمات الجماهيرية ، فذاك عمل مطبوع بالتزمت الثوري ، وهذا عمل مطبوع بميوعة الليبرالية . وشتان مابين الثورية والليبرالية . اذا فإن الانتقال من مرحلة الطليعة الى مرحلة الجماهيرية ، سيلاقي عقبات ومصاعب وسنواجه خلال امراضاً شتى، وربما تكون اخطر من الامراض التي نعانيها اليوم .
فإذا كنا نشكو اليوم من فردية هذا الكادر الحزبي أو ذاك فغداً سنعاني من فردية بعض رموزنا الجماهيرية ومن انخراط العناصر المستقلة بحركة حزبنا العامة . لذا فإننا ملزمون ، ولسنا مخيرين بإستغلال الظرف الراهن لخوض تجربة الانتقال من الطليعة الى الجماهير .
أما الخشية من ان يكون الانصراف لبناء المنظمات الجماهيرية ، على حساب نمو المنظمات الحزبية ، فلا مبرر لها ، إذا ما جعلنا عملية بناء المنظمات الجماهيرية ، عملية منظمة وواعية لآفاق تطورها ، التي تجعل من نمو المنظمات الجماهيرية عاملاً من العوامل التي لا تسمح بتراجع المنظمات الحزبية ، بل تساعدها على عزل العناصر المتخلفة ، من جهة ودمج العناصر المتطورة بحركة المنظمات الجماهيرية من جهة اخرى .
ان نجاح المنظمات الحزبية ببناء المنظمات الديمقراطية الجماهيرية ، ووعيها للمهمة التي لا يمكن تحقيقها بدون بناء هذه المنظمات سيمكنان الحزب من استثمار حركة المنظمات الديمقراطية الجماهيرية ، لاغناء وعيه وانماء حجمه وتوسيع قاعدته التنظيمية .
سادساً : مما تقدم نلحظ ان المهمة التي يجب ان ننهض بها . قد تجاوزت المعضلة المالية ، التي اصبح الكادر الحزبي مطالباً بإستغلال معالجتها في سبيل اخضاع الحزب كله لعملية تربوية ثورية . ترتقي بوعينا وتسلحه، ليس بامتحان قدرته على تجاوز ازمته المالية فحسب، وانما بخوض تجربة تنظيمية جديدية لم يألفها الكادر ولم يتمرس في ميادينها ومن أجل خوض هذه التجربة ، فلا بد من قبل ان يتراجع دور المنظمات الحزبية النضالي، لصالح حركة المنظمات الجماهيرية الديمقراطية . وفي ظروف تطبيق هذا المفهوم :” التراجع من اجل التقدم ” ، نستطيع ان نكرس جهد المنظمات الحزبية كله لعملية بناء المنظمات الجماهيرية ، مما يجعل من عملية التراجع الحزبي ، ضرورة من ضرورات التقدم الشعبي !.
قد يبدو مفهوم ” التراجع من اجل التقدم” متناقضاً ، يبد ان التأمل فيه يكشف ان التراجع أو الانكماش الذي ستمارسه المنظمات الحزبية، سيساعد على تخفيض مصروفاتها المالية ، من ناحية ، وسيدفعها لأن ترمي بكل ثقلها في عملية بناء منظماتها الجماهيرية . من ناحية اخرى . وبوسعنا ان نصوغ المعادلة الجدلية التالية :
- تراجع دور المنظمات الحزبية يؤدي لتراجع مصروفاتها المالية .
- تقليص امتداد وانتشار المنظمات الحزبية يؤدي لتطهيرها من العناصر المعيقة نتيجة تخلفها .
- اضعاف حركة المنظمات الحزبية يؤدي لتقوية حركة المنظمات الجماهيرية .
مما تقدم نلحظ ان الظرف مناسب جداً لجعل مسألة بناء المنظمات الجماهيرية ، مهمة كل الحزب ، بحيث تكون فترة الربيع والصيف مكرسة لبناء منظماتنا الجماهيرية الديمقراطية ، التي ستخضع حركتها للتخطيط والمراقبة بغية تعزيز دورها وتمكينها من ان تتلافى طغيان الاخطاء والتناقضات على جوهرها .
إنّ الكوادر والاعضاء الذين سينهضون بعملية بناء المنظمات الجماهيرية والذين سيسهمون بتنشيط حركتها. هم الضمانة لعدم غرق المنظمات الحزبية في اطر العمل الجماهيرية لدرجة الضياع، وهم القوة التي ستتحرك في الوقت المناسب لاستثمار حركة المنظمات الجماهيرية ، بعد ان تغني وعيها باستيعاب مفاعيل العمل الجماهيرية ، وتوسيع امتداداتها التنظيمية في اطر المنظمات الجماهيرية، توسعاً يحررها من اشكال الامتداد التنظيمي الانتقائي غير الفاعل ، ويفتح لها مجال العمل الهادف تعزيز حركة الحزب بين الجماهير ونسج اشكال جديدة لامتدادتها التنظيمية ، مما يتيح لها معرفة قدرتها المؤثرة على الجماهير في ميادين انقسامها الفئوي : عمال- فلاحين- مثقفين- نساء- طلاب شباب … الخ
سابعاً : لدى دراسة اللجنة المالية المركزية للموازنات استرعى انتباهها الفارق الكبير بين الواردات والمصروفات . واما هذه المعضلة فقد توصلت الى مايلي :
1- إن المنظمات الحزبية قد عجزت عن الاسهام الجدي بمعالجة الازمة المالية التي يعانيها الحزب . ذلك ان زيادة المصروفات على الواردات تعني بقاء الازمة قائمة بدون حل فالمطلوب تحرير حركة الحزب من وجود الازمة ، وليس التخفيف من وطأتها.
2- ان اقرار الموازنات دون تغطية مالية كافية ، يقتضي تأمين مصدر مالي للتمويل يتكفل بسد العجز الناجم عن زيادة المصروفات ، وبما ان القاعدة السائدة اليوم في العلاقات السياسية القائمة على اساس التمويل المالي، هي قاعدة ، ” من يدفع يسير ، فإنّ اقرار الموازنات المقدمة الى اللجنة المالية المركزية لا يعني سوى واحد من أمرين : اما ان تقوم المالية المركزية بتغطية العجز، وفي هذه الحالة ، فإن قيادة الحزب ستكون مضطرة للخضوع لإرادة وتوجيهات الممول . واما ان تقوم المنظمات الحزبية بمواجهة الازمة المالية ، بعد فوات الاوان ، فتضطر لمعالجتها بشكل فردي ومرتجل، وفي هذه الحالة. فإن الارتباك والتخبط سيحكمان حركة الحزب العامة والخاصة، حكماً قد يهددها بالشلل للدرجة التي تستغلها القوى المعادية . لمضاعفة تآمرها ومحاولات تخريبها التي ما انفكت تنظمها بغية التخلص من الرقابة الثورية التي نمارسها عليها .
ثامناً : لكل ما تقدم ، فإن اللجنة المالية المركزية تقترح على اللجنة المركزية الوطنية ومكتبها السياسي ما يلي :
1- تنمية الواردات بغية الخفض في المصروفات.
۲ – خفض مصروفات المنظمات الحزبية ،لتطابق وارداتها الفعلية. وان توضع خطة لهذه الغاية.
3- تعيين مسؤولين ماليين لكل رابطة ومنطقة يتمتعون بحل الاعتراض على الصرف ، واقتراح الحلول.
4- توسع اللجنة المالية المركزية لتضم المسؤولين الماليين بقية التوجيه والارشاد الماليين ، دون الغوص بمشكلات المنظمات المالية ، ودون الاطلاع على ارقام موازناتها.
ه – فرض رقابة مالية مركزية صارمة ، من أجل مراقبة الالتزام بخطط تخفيض المصروفات وتنمية الواردات ، وفرض رقابة تنظيمية دائمة بغية تسهيل مهمة الرقابة المالية.
6- ان تعمل اللجنة المالية المركزية على استخلاص أساليب الصرف تساعد المنظمات الحزبية على تخفيض مصروفاتها ، وعلى نقل خبرة المنظمات الحزبية في كيفية تنمية وارداتها ، وفي هذا المجال بلحظ ان امكانية المعالجة واردة ، ولعل مبادرة يوم العمل التطوعي التي نفذتها منظمات منطقة الشمال ، تكفي لتبرير هذا التفاؤل ، فمن يبادر للعمل في سبيل التخفيف من وطأة الأزمة المالية ، بوسعه أن يعمل على تقليص المصروفات أيضاً ، ففي مبادرته الطوعية يتجلى استعداده لرفض ” العبودية “، التي قد تنجم عن الرضوخ للتمادي في الصرف دون حساب للكرامة وضوابط مراعاة السير على طريق التحرير والديمقراطية والاشتراكية والوحدة والتضامن البروليتاري الأممي”.
هذه مقتطفات من تقريري المكتب السياسي الوطني واللجنة المالية المركزية وقد اقرها ” الكونغرنس ” وأخذت طريقها للتطبيق والترجمة العملية فهل بوسع أي حزب أو منظمة من احزاب ومنظمات الحركة الوطنية الموجودة على الساحة ، أن يفعل ما فعله حزب العمل الاشتراكي العربي ، بل هل بوسع قيادات هذه الاحزاب ان تستغني قضاء عطلة ، الاسبوع الويك انده في باريس؟
وإذن فليستشهد الشهداء في سبيل وجود القيادات وتمويل جيوبها. أما الشعب وعملية السحق التي يتعرض لها ، فمسألة لا تعنيها ، المهم أن تتم انتخابات رئاسة الجمهورية وتبقى خطوط التماس وقذائفها العشوائية وسيلة التبرير الوجود والحصول على المال اللازم لتغطية المصروفات ! ..
هذا هو حديث التقارير وجوابها على السؤال المتعلق بكيفية تصرفنا حيال النتائج التي أشار إليها الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية، فما هي شهادة الوقائع التي تعاقبت على رؤية حزب العمل الاشتراكي العربي وهل استطاعت أحزاب وقوى الحركة الوطنية أن تفعل شيئاً من اجل الجماهير ، لتبرير بقائها بذيل القيادات الطائفية؟
اظن ان الحلقة الثامنة ، قد أجابت باسهاب على السؤال ، لذا لا أرى داعياً للعودة للموضوع ، وسابقى عند محاضر اجتماع المجلس العربي العام لاطالع المداخلة النظرية التالية:
يقول تقرير اللجنة المالية المركزية: إن مراحل تطور الحزب البروليتاري تبدأ بمرحلة التأسيس ، أولا ، ومرحلة الطليعة الثورية ، ثانياً ، ومرحلة الحزب الجماهيري ، ثالثا .
إذا سمح الرفاق ، فإنني أود أن افصل هذه العناوين : ففي المرحلة الأولى تكون الأولوية لصياغة مفهوم العمل الثوري ، وفي المرحلة الثانية ، تضاف مهمة ثانية إلى المهمة الأولى ، تتمثل بالعمل على ترجمة المفهوم عبر الممارسة العملية الملموسة من قبل الجماهير الشعبية ، وفي المرحلة الثالثة ، يتوجه العمل لانجاز مهمة ثالثة تتمثل بالانتقال من موقع الطليعة إلى موقع الحزب الجماهيري ، وينصب العهد خلالها على بناء المنظمات الجماهيرية التي يقوم الكادر والأعضاء الحزبيين والأصدقاء الملتزمين بإنجازها.
خلال المرحلة الأولى يكون الجهد منصبا على البحث عن العناصر الأكثر وعيا من بين الأوساط الشعبية عامة والعمالية خاصة ، وتكون هذه العناصر عادة قد بلغت درجة من التطور جعلتها تدرك أهمية العمل الثوري وأن بشكله العام ، وتلعب تطورات الواقع الاقتصادي – الاجتماعي وانعكاساته السياسية ، دوراً يدفعها للبحث عن اطار يضمها للعمل الثوري ، لذلك فإن البحث عنهم يجعل المؤسسين يلتقونهم بمنتصف الطريق ، وبانضمامهم يسهمون بصياغة المفهوم وبلورته.
. وخلال المرحلة الثانية ، يكون الجهد منصباً على الاستمرار ببلورة مفهوم العمل الثوري والتوسع فيه وجعله نظرية تغطي جـوانب حياة الكائن الاجتماعي كلها ، تغطية تجعل من الممارسة العملية التي تترجم نظرية العمل الثوري ، ضرورة من ضرورات التأكيد على كون المفاهيم النظرية تعبر وتعكس الواقع الموضوعي ، وبدون هذه الترجمة فإن مفاهيم العمل الثوري ، لا يمكن ان تصبح نظرية ثورية موجهة ومرشدة . لذلك فإن الانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الطليعة يقتضي التوجه الجاد لميدان الممارسة العملية الكفاحية اقتضاء يتيح فرصة لتمييز حملة راية العمل الثوري بالجدية والصـدق والمبدئية ، ويفضل الجهد والمثابرة ، تصبح الجماهير قادرة على رؤية ما يميز الثوريين عن غيرهم من الاصلاحيين والنفعيين والانتهازيين ، وفي خضم المتابعة في ميدان الترجمة العملية لنظرية العمل الثوري ، تتكون الطليعة الواعية والمنظمة ، تكوناً يقودها للانتقال للمرحلة الثالثة … مرحلة بناء الحزب الثوري الجماهيري . ومع متابعة بلورة نظرية العمل الثوري واغنائها بمعطيات الممارسة العملية ، أولا ، ومع الإنغمار في حركة المجتمع العامة والعمل على ايصال مفاهيم العمل الشيوعي الثوري وخصائصه وخصاله والتزاماته ، ثانياً ، ، ينضج الظرف لتحويل الطليعة الواعية والمنظمة إلى حزب جماهيري شعبي ، تحويلا ينبغي أن تقوم به كافة كوادر الحزب واعضائه وأصدقائه ، ثالثاً.
لذا يتبين أن مهمة المرحلة الأولى من مراحل البناء ، تبدأ بصياغة مفهوم العمل الثوري ، واغنائه وتوسيعه بحيث يصبح قادراً على الاجابة على الأسئلة التي تطرحها حركة الحياة الواقعية ، ان النجاح بانجاز هذه المهمة هو المدخل لحشد ، الطاقات الثورية الكامنة بين الأوساط الشعبية في اطار نظرية العمل الثوري والعمل على ترجمتها بشكل خلاق ، وفي خضم المتابعة الثورية لعملية بناء الطليعة الواعية والمنظمة بدون انقطاع ، لكي تتطور النظرية مع تطور الطليعة ، وبدون ذلك فإن النظرية تصبح متخلفة وعاجزة عن الاجابة على الاسئلة التي يطرحها تطور حياة الكائن الاجتماعي . لذلك فإن مهمة الصياغة النظرية تستمر جنباً الى جنب مع مهمة الممارسة العملية واداء المهام النضالية الملموسة من قبل الجماهير الشعبية.
إنّ آداء المهتمين : النظرية والعملية معاً ، يتيح لعملية التطور ان تتابع خطاها ، بحيث تصبح النظرية المقرونة بالممارسة العملية هوية عقائدية وخصالاً مميزة الطليعة بين أوساط الجماهير الشعبية. للدرجة التي تجعل امكانية الانتقال لجعل الطليعة حزبا جماهيريا واردة وقابلة للتحقيق ، بحيث يستطيع كادر الحزب وأعضاؤه القيام ببناء المنظمات الجماهيرية ، التي بدون قيامها لا يمكن أن تكون الطليعة حزباً جماهيرياً .
وخلال هذه المرحلة تضاف مهمة ثالثة لمهام الكفاح الثوري ، اعني مهمة زج الجماهير بميدان المواجهة مع اعدائها الطبقيين والقوميين . فالعمال يواجهون الرأسماليين من خلال المطالبة بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل ، والفلاحون يواجهون الاقطاعيين والملاك العقاريين . من خلال ضمان اثمان عائدات جهودهم والاحتفاظ بمزارعهم الصغيرة وممتلكاتهم التي يسعى اعداؤهم الطبقيون لسلبهم اياها ، والشباب بمن فيهم التلاميذ يطالبون بتوفير المدارس والمعاهد والجامعات وتحسين مواد التعليم والثقافة العامة ، وينخرط الجميع بالمطالبة بالحريات العامة : النقابية أعدائها والسياسية.
إن مهام المراحل الثلاث تتزامن وتترافق مع بعضها ، في وحدة جدلية ، منذ بدء عملية التأسيس . غير أنها لا تأخذ ابعادها الكاملة من الوضوح والبلورة . الا في وقت بلوغ المرحلة الثالثة ، لذلك تبدو مهمة الصياغة النظرية ، كأنها المهمة الوحيدة أمام المؤسسين ، ولكنها تصبح مهمة ثانية في وقت الانتقال للممارسة العملية وبناء الطليعة ، وبعد وضوح النظرية واستكمال عملية بناء الطليعة ، تظهر المهمة بناء الحزب الجماهيري باعتبارها المهمة الأولى التي تنهض بها النظرية والطليعة في أن معاً . ولكن المهمتين الأولى والثانية ، إن تصبحان الثالثة والثانية ، بعد مهمة بناء المؤسسات الجماهيرية فإنهما تتعززان وتتبلوران وتنضجان بمعطيات العمل الجماهيري الذي تنغمر فيه عناصر الطليعة ومفاهيمها النظرية ، انغماراً يعيد خلقهما من جديد ، ان صح التعبير ، بحيث تتحرر النظرية من جوانب الخطأ فيها ، وتتحرر الطليعة من عناصرها السلبية كلما اتسعت دائرة نفوذها بين الجماهير وتعرفت أكثر فأكثر على مزاجها ومصالحها ودرجة ارتباطها بهذه المصالح ، إن هذه المرحلة تعتبر هامة جدا بحياة الحزب ، يحكم كونها تساعده على اختصار مرحلة الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية . فالحزب يصبح أكثر قدرة على الفعل والتأثير والتوجيه والتعبئة . فمن خلال زج الجماهير في ميدان المطالبة بتحقيق حاجاتها ، واضطرار السلطة الرجعية ( الحديث عام ، وليس عن لبنان فقط) لقمع حركة الجماهير … من خلال ذلك تتبلور الحاجة ، للتغيير الجذري اكثر فأكثر ، تبلوراً ينضج الظرف ، معه ، للثورة المسلحة فيبرز دور البندقية لترجمة شعار الثورة ، ولكن هل تعني لعلعة الرصاص ، نهاية المطاف ، وان كل شيء سيكون على ما يرام وستبلغ الثورة نهايتها الحاسمة ، ام ان الاحتمالات التي ستطرحها الصدف ، قد تلعب دوراً سلبياً معاكساً للتصور النظري الذي استندت اليه الطليعة ، لدى شروعها باطلاق النار على خصمها الرجعي؟
إن الصدف ، كما تعلمنا الماركسية ، تلعب دوراً هاماً بتوجيه الحركة الموضوعية العامة . ومعلوم ، فإن انعدام القدرة على رؤيتها قبل ظهورها يجعل الفكر عاجزاً عن معرفة طبيعة الآفاق التي ترسمها ، لذا فإن التزام العلمية والشعور بالمسؤولية ، يدعوان الطليعة لإنزال شعار الثورة ، وكمكمة البنادق ، تجنباً للمغامرة الخاسرة ، وحفاظاً على ما يمكن الحفاظ عليه من قوى الثورة ، في حال تغلبت التطورات اللاحقة على إرادة الثورة ، وجعلت الثوار يعيشون المأزق نفسه الذي عاشته ” كومونة باريس “.
وإذن ، فإن البندقية ، بدون شعار ، مفهوم ثوري يهديها سواء السبيل كالأعمى الذي يتخبط في متاهات طريق يجهلها ، وعندما يتراجع الشعار ، فلا بهدان تتراجع معه البندقية .
هكذا يتصور الفكر مراحل تطور عملية بناء الحرب الثوري . ولكن ماذا عن المنظمات الجماهيرية؟
إن مهام المنظمات الجماهيرية ، خلال مراحل البناء الأولى ، تتمثل في العمل الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي : منظمات شبيبية لتنظيم الرحلات والمخيمات والفن والثقافة وكل ما يساعد على تنشيط حركة الشباب ، وتكلهم جمعيات استهلاكية ، نوادي رياضية ، دور حضانة ، جمعيات ثقافية ، نقابات عمالية وحرفية … الخ ، وبعد ذلك ، حين يشتد ساعدها وتتمرس بعملها وتتبلور شخصيتها ، العمد قياداتها لزج المنظمات الجماهيرية ، كل حسب ومجاله ، بالعمل السياسي الوطني.
إن عملية بناء المنظمات الجماهيرية هي الأخرى تخضع لمراحل في تطورها ففي المرحلة الأولى تكون منظمات للحزب ، اي واجهات يتعامل الحزب من خلالها مع الجماهير ، تعاملا يجعلها وسائل لاجتذاب الجماهير لاطار نظرية الحزب الثورية ، وفي المرحلة الثانية ، تصبح هي صاحبة جوهر هذه النظرية وتحدد تعاملها مع أعدائها على أساس وعيها الجديد المتصل بنظرية العمل الثورية . وفي المرحلة الثالثة ، تتحول إلى حركة جماهيرية ورأي عام شعبي شد الرجعية وارتباطاتها الاستعمارية .
المرحلة الأولى تكون قياداتها حزبية ، وفي المرحلة الثانية تتراجع العناصر الحزبية المكشوفة لتفسح مجالا للعناصر الشعبية غير الحزبية لتشكل القيادة مع العناصر الحزبية غير المكشوفة ، وبعد أن تبلور هذه المنظمات شخصيتها الاجتماعية وتحدد رؤيتها العامة ، وتتحول إلى منظمات شعبية قوية ، تعود العناصر الشعبية الحزبية لقيادتها لتحتمي بالحصانة الشعبية التي أصبحت عليها المنظمات الشعبية.
إن المنظمات الشعبية لا يمكن أن تكون منظمات واجهة للحزب ، ما تتحول هذه المنظمات إلى خصم طبقي للسلطة الرجعية ، وهي لا يمكن أن تبلغ هذه المرحلة ما لم تبلور مطالبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، بلورة تجعلها مستحيلة التحقيق من قبل السلطة الرجعية ونظامها السياسي القائم وعندما تبلغ عملية الصراع الطبقي هذا المستوى ، فإن مطالب الجماهير تصبح تجسيدا واقعياً لمفاهيم الحزب ونظريته التي تكشف فساد ما هو كائن وتعبر عما يجب ان يكون.
إن بلوغ تطور الحركة الشعبية هذه المرحلة يجعل الجماهير تنظم جمعياتها سرأ بغية اسقاط القيادات المفروضة عليها من قبل السلطة الرجعية ، وفي ظروف العمل السري تجد الجماهير نفسها بحاجة ماسة لدور وخبرة العناصر الحزبية ، وبذلك يصبح العمل الجماهيري العلني على ارتباط وثيق بالعمل طليعي السري ، الذي يضم عناصر الطليعة المناضلة الحربية وغير الحزبية.
إن مطالب الجماهير يجب أن تتبلور وترتقي لمستوى يفوق قدرات النظام الرجعي على تلبيتها ، ولا بد أن تكون هذه البلورة معبرة عن مستوى وعي الجماهير لكي لا تبدو مفتعلة وغير حائزة على قناعة الذين تنسب اليهم ، وعلى سبيل المثال فإن تعبئة النقابات المطالبة بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل لا بد أن تراعي مستوى وعي العمال ومدى استعدادهم المجابهة ارباب العمل وسلطتهم الرجعية ، لكي لا تبدو الحركة النقابية الاقتصادية فوقية ولا تعكس غير قناعة عناصرها الطبيعية ، إن المطالبة بزيادة الأجور لا يصح أن تضع العمال امام الخيار الصعب ، الذي يجعلهم مهددين بالفصل من العمل وفقدان أجورهم التي هي مورد رزقهم الوحيد لأن العمال عندما يوضعون أمام خيار على اجورهم ، او زيادتها فإنهم سيختارون الحفاظ على اجورهم وسيتنازلون عن الزيادة.
معنى ذلك أن الزيادة يجب ان تكون قابلة للتحقيق وأن الظروف الموضوعية ملائمة لتحقيقها . ان أخطر ما تتعرض له الحركة المطلبية يتمثل بارهاق العمال بنضال فاشل لا يلمسون جدواه العملية. وغالباً ما تقع مثل هذه الأخطاء بسبب وجود قيادات حزبية متزمتة وغير مدركة للعلاقة الجدلية ، بين منظمات الطليعية الحزبية والمنظمات الشعبية !..
إن العمل الحزبي الطليعي ينمو ويتسع ، مع نمو واتساع واجهاته الشعبية . وبدون ذلك فإنه يعجز عن تغطية الحركة الشعبية ، ويتحول إلى عامل سلبي يعرقل حركتها ويزجها في معارك الفشل ، التي ترتد عليها بالتدهور والإنهيار.
إنه لخطر على الحركة الجماهيرية الواجهة أن يقودها حزبيون متزمتون فهؤلاء يعانون من الجزع الشخصي وضيق النفس والعجز عن المناورة ومجاراة مزاج الجماهير الذي هو مزاج متغير وغير قابل للثبات دائما بحكم كون تركبيته خليط من المفاهيم الصائبة ومفاهيم الأنانية والنفعية والانتهازية ،
ولا بد أن تراعي تركيبته هذه كي تعرف العناصر الطليعية مستوى تطوره ودرجة احتماله فكلما كانت مصالح الجماهير الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . جذرية ، كلما كانت تركيبة مزاجها أصلب وانضج استعداداً للتحريض والتحريك الكفاحي.
إن الجماهير الشعبية تتأخى وتتعاون في اطار العمل التعاوني الاقتصادي – الاجتماعي – الثقافي ، أكثر من تعاونها في إطار العمل الحزبي الطليعي وحتى السياسي العام ، وعلى العناصر الحزبية الواعية ، أن تراعي هذه الناحية ، لكي لا تقع بخطأ التفريط بعلاقتها مع المنظمات الواجهة ، خاصة ، خلال مراحل البناء الأولى ، حيث تكون العناصر الشعبية غير الملتزمة حزبياً ، حذرة جداً ، وغالباً ما تكون قلقة وغير مطمئنة وخائفة من الوقوع بقبضة الحزبيين “.
بعد مضي ما يقرب من السنة ونصف السنة ، وعلى وجه التحديد في أوائل تشرين الأول ١٩٨٧ ، على اتخاذ قراراتنا لمعالجة ازمتنا المالية ، وضع المكتب السياسي الوطني تقريراً تقييمياً ، أشار إلى إيجابيات خطة العمل ، إذ تراجعت المصروفات وزادت الواردات ، وتحول العديد من أبواب الصرف السابقة إلى ابواب للواردات ، وانصرف الرفاق إلى تنظيم شؤون الحزب الداخلية وتم تعميم مبادرة منظمات الشمال واصبح يوم العمل التطوعي كالسبوت الشيوعية تلتزمه كافة المنظمات الحزبية ، بغية رفد صندوق المالية المركزية ! ..
هكذا استغنى حزب العمل الاشتراكي العربي ، عن دولارات حكام النفط واعوانهم ، بالاعتماد على نفسه وارادته . وأصبح بوسع قيادته أن تنظر لمن يريد ان يسيرها مقابل دولاراته ، برؤوس مرفوعة.
وكان ردي على ذلك التقرير ، رسالة إلى المكتب السياسي الوطني جاء فيها :
إن الصورة التي ارتسمت بذهني قد أعادتني إلى لبنان … اليكم لأشهد الثمار التي يقطفها نهجكم الثوري بفضل تضافر جهودكم وحرصكم على استمرار متانة وحدتكم الرفاقية واقبالكم على الحرث في ظرف افلاس الآخرين العامة والدوران لدرجة لم يعودوا معها يملكون غير الضياع والتخبط في متاهات تفاقم الازمة العامة والدوران في دوامتها ” .
أيها الرفاق،
هل تسمحون لي بأن اتساءل ، في ضوء المادية – الجدلية التي درستموها في حلقاتكم الفكرية ، حول انعكاس تفاقم الأزمة العامة الراهن ، وردة الفعل المناقضة لفعل الفاشية ، وبعبارة أخرى ، هل يمكن أن يتدهور الوضع اللبناني للدرك الذي بلغه ، نتيجة تفاقم الأزمة العامة ، دون أن يخلق شعوراً بضرورة العمل من اجل ايجاد البديل الثوري للنظام الراسمالي – الرجعي العميل القائم ؟
إنّ عملية بناء الحزب الثوري تمر ثلاث مراحل:
التاسيس، ثم البناء الطليعي ، وصولاً للحزب الجماهيري .
إذا كان الجواب سلبيا ، فإن الشعور بضرورة العمل على ايجاد البديل الثوري ،في الظرف الراهن ، لا بد ان يبدأ من الصفر، اي من التاسيس للأداة القادرة على حمل راية ذلك البديل . فهل تلحظون في ظرف تفاقم الازمة اللبنانية العامة الراهن. حركة كهذه ؟
مرة أخرى ، إذا كان الجواب سلبيا ، فما هو التفسير لذلك يا ترى ؟
هل أن الظرف الموضوعي لم ينضج كفاية للتغيير والثورة ، أم أن الظلم يبلغ درجة طافية تكفي لخلق الشعور بضرورة العمل على خلق الاداة الثورية التي تتكفل بتحرير الشعب العربي في لبنان من قبضة تفاقم الأزمة العامة التي تعتصره؟
واضح أن السؤال لا يتعلق بعدم حدوث التغيير الجذري ، أي الثورة ، لكي يكون الجواب التقليدي : عدم توفر العامل الذاتي القادر على القيام بالثورة وانما هو يتعلق بردة الفعل لدى الجماهير على طغيان الظلم ، والشعور الناجم عنها ، والمفترض أن يتمثل بحركة ملحوظة لعناصر طليعية ثورية ، تعمل على تأسيس الاداة الثورية … الحزب الثوري الذي ينهض بعملية تنظيم الشعور بضرورة الاطاحة بالظلم وأهله ، فأين هي هذه الحركة الملحوظة لعناصر طليعية ثورية ؟
إذا سلمنا يكون الشعب اللبناني سوي ، وان الانسان اللبناني قابل لأن يستجيب لنداء تنظيم الشعور بضرورة مقاومة الظلم … اذا سلمنا بهذه البدهيات ، فلا بد أن نبحث عن جواب لعدم نشوء طليعة ثورية كرد فعل على ذروة تفاقم الأزمة العامة في ظرفنا الراهن.
انني مقتنع ، مثلكم ، بأن الطليعة الثورية موجودة ، وانني اراها ممثلة بوجودكم … بوجود حزب العمل الاشتراكي العربي ، ولكن هذه القناعة ، لا تكفي للاجابة على السؤال المتعلق بعدم وجود حركة ملحوظة لعناصر طليعية ثورية ، تعكس ردة الفعل الشعبية على تفاقم الأزمة العامة خلال هذه المرحلة ذلك أن حزب العمل الاشتراكي العربي ليس وليد الظرف الراهن ، وقد تجاوز مرحلتي التأسيس والبناء الطليعي ، وهو ينتقل الآن إلى صفوف الجماهير سعياً منه للتحول إلى حزب جماهيري ، انتقالا يمثل تراجعاً عن جبهة المواجهة المباشرة ، مما يخلق فراغاً يفترض أنه يتيح لعناصر طليعية ثورية مجالا للاندفاع في طريق خلق اداة الثورة واقامة البديل الثوري على انقاض النظام القائم .
فإذا كان السؤال لا يدور حول مجرد وجود طليعة ثورية ، وإذا كان حزب العمل الاشتراكي العربي ، رغم كونه طليعة ثورية ، قد قرر التراجع عن واجهة المجابهة الاعلامية ، مما يترك فراغاً لنشوء ظاهرة ثورية إلى جانبه ، فلماذا لا نلحظ مثل هذه الظاهرة ؟
إنّ طليعة وطنية لا تمتلك مشروعاً للعمل الوطني
لا بدّ ان يلفها الضياع حتى تمتلك مشروعها
إذا راجعتم ما كتبته قبل سبع عشرة سنة حول عملية تحول حركة القوميين العرب إلى الشيوعية دون أن تكون ملتحقة بالأحزاب الشيوعية العربية ، كما هو شان تحول حزب الشعب في منغوليا والاتحاد الزراعي في بلغاريا ، وكون تحول الحركة قد كرر عملية التحول نحو الشيوعية في كوبا … إذا راجعتم ما كتبته حول عملية التحول تلك ، وتفسيري لها بكونها تحققت بمعزل عن الأحزاب الشيوعية لأن هذه الأحزاب لم تشكل حاجزاً نضاليا يحول دون مرور عملية التحول ، بغير الارتباط بها ، مستدركون أن وجود حزب العمل الاشتراكي العربي هو الحاجز الذي يحول دون نشوء ظاهرة ثورية في الساحة اللبنانية وبوسعكم أن تتأكدوا من هذه الحقيقة بتساقط كل الادعاءات الثورية اللفظية على صخرة تفاقم الأزمة العامة وضغط تطوراتها وتفشي امتدادها إلى الطرف الوطني لتصفعه بقبضتها الحديدية .
دعونا نقف قليلا امام عملية التساقط الكامل لكل الادعاءات الثورية التي عبر عنها ونطق بها اشخاص عديدون في الساحة اللبنانية ، فإذا رجعنا إلى المرحلة الثانية لتفاقم الأزمة العامة ، فستجد أن الساحة اللبنانية ، مع دخول المقاومة الفلسطينية قد ضاقت بكثرة الآراء والمفاهيم والادعاءات الثورية ، بما فيها الادعاء الذي حمل رايته حزب العمل الاشتراكي العربي ، ولكن تطورات الأزمة العامة والارهاق الذي سببته للقيادات الاصلاحية قد شدد قبضته على اعناق قيادات المقاومة الفلسطينية ، لدرجة جعلتها تعاني من الاختناق ، فاستسلمت للأمر الواقع الذي عجزت عن كيفية إدارة التعامل معه ، استسلاماً دفعها للهروب المعروف عام ۱۹۸۲ ، بيد أن الأزمة العامة لم تخفف من وطأة قبضتها بخروج المقاومة الفلسطينية من الساحة وإنما ازدادت طغياناً بدخولها لمرحلتها الثالثة التي ما زلنا نعيشها ، ونتيجة لذلك الطغيان فقد تساقطت الادعاءات الثورية مثلما تساقطت الاصلاحية ، فكيف ينبغي أن نفهم ذلك السقوط والأسباب التي قادت إليه ؟
إن العودة إلى ” طريق الثورة” ، العدد الثاني ، تدلنا إلى أن عملية التحول نحو الشيوعية تكون محكومة بثلاث عمليات جدلية : التناقض الداخلي بين اليسار واليمين أولا ثم التناقض بين حركة الطليعة الثورية والحركة العفوية للجماهير الشعبية العامة ، ثانياً ، والتناقض بين المفاهيم والآراء المثالية والمفاهيم والآراء الشيوعية العلمية ، ثالثاً.
كما أن الوثائق التي اجازتها اللجنة المركزية الوطنية ومجلسها الحزبي العام ، قد حددت عملية بناء الحزب الثوري بمراحل ثلاث : مرحلة التأسيس . ومرحلة البناء الطليعي ، التي تتسم بالانتقائية ومرحلة بناء المؤسسات الجماهيرية التي تشكل واجهة الحركة الطليعية الثورية ، ولدى النظر إلى عملية تساقط الإدعادات الثورية ، ما خلا الدعاء حزب العمل الاشتراكي العربي فسنلحظ ان اسباباً عديدة قد تضافرت للاطاحة بتلك الادعاءات العجز الفكري عن فهم جوهر الأزمة العامة وافاق تطوراتها ، والمغالاة الإعلامية بتكرار اللفظة الثورية وتحديد مهمات تفوق القدرات الذاتية على أدائها ، وقد تجمعت تلك الأسباب العديدة في نزعة حوافز ذاتية في مشروعة ، مما خلق ردود فعل مناهضة لها ، فوجدت نفسها أمام واحد من خيارين اما الاستسلام تأمينا الله هم وحماية الذات ، واما السحق الكامل ، فاستسلمت ، أما حزب العمل الاشتراكي العربي ، فكان يتصرف بحساب ويرفع الشعار او ينزله بحساب. ولعل تعاملنا مع الاحتلال الصهيوني ولقاءنا مع الحزب الشيوعي اللبناني في اطار جبهة المقاومة الوطنية ، ومعارضتنا الخروج من بيروت ، ومبادرتنا لدعم انتفاضة فتح ، واغراق الساحة اللبنانية خاصة والساحة العربية جزئيا بجملة ادبياتنا التي شرحت باساليب مختلفة رؤيتنا الاستباقية وكرست ادعاءنا الثوري على الساحة ، ليكون ظاهرة ملموسة ، وتعاملنا ما يسمى بحرب المخيمات وسعينا لنسج علاقات عربية نضالية دون الوقوع بقبضة التبعية وموقفنا من حرب المكاتب الحزبية في شباط الماضي في بيوت الغربية … لعل هذه الوقائع تؤكد اهمية حساباتنا وصواب رؤيتنا ، بيد أن النتيجة التي قادت إليها مسلكية الحزب ، هذه ، وكيفية تطبيقه لتكتيك تعامله مع الواقع المعقد ، قد تجلت بأزمة مالية ، ما كان لنا أن نواجهها بمعزل عن مجمل الحالة التي بات الحزب يعيشها ، فإذا بنا امام امتحان عسير اما ان نبحث عن ممول لتسديد فواتير سيارات الرفاق والمنظمات وتغطية مصروفات المكاتب ومظاهر الوجاهة الفارغة من أي مضمون ، واما ان نعالجها بالاعتماد على الذات ، وعلى اساس متابعة السير إلى أمام بدون توقف . وكان طبيعياً ان يكون الاختيار منسجماً مع طبيعة تربيتنا ونمط وعينا ورسوخ العقيدة بأذهاننا ، فكان الخيار أن نبقى أوفياء لجماهيرنا ودماء شهدائنا الذين سبقونا على طريق التحرير والديمقراطية والاشتراكية والوحدة والتضامن البروليتاري الأممي.
ولكن خيار البقاء على الوفاء للجماهير والشهداء ، ما كان يمكن أن يتحقق لولا إعادة الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية ، فكان التراجع خطوتين من اجل التقدم خطوة صحيحة إلى الأمام ، ولا ريب في أن التقييم النهائي لخطة عملنا التكتيكي الراهنة ما يزال يحتاج لمزيد من الوقت . ولكن المعطيات المتوفرة تشير إلى أننا لم نخسر سوى الأمراض التي ورثناها من المرحلة السابقة: قبلاً ، كانت القيادة مطالبة بتسديد المصروفات واجتراح المعجزات من أجل حل الأزمة اللبنانية ، ونظراً لانعدام القدرة على ذلك فإن بيانات التبرير والتلفيق والتفسيرات الهامشية والاعلام المسلح وتصريحات الناطقين باسم الحزب ، هي الوسائل التي تغطي بها القيادة عجزها . أما الأزمة المالية ، فقد دفعنا البحث عن مصدر للتمويل لخيارات رهيبة لم نجد شجاعة تدفعنا لقبولها ، فرجعنا إلى الذات .. إلى رفاقنا اعضاء حزب العمل الاشتراكي العربي ، نصارحهم بمأزقنا وحراجة موقفنا ، فكانت الوقفة التاريخية الحازمة والخطة الراهنة التي انبثقت عنها والتي حررت القيادة من هموم تدبير التمويل والتموين والتصليح والبنزين والنتائج الوخيمة المترتبة عليها ، والتي جعلتها كما الحقيقة ، ناصعة امام الاعضاء لا تحتاج إلى تبرير ولا تلهث بحثا عن تدبير مالي وكل ما يطلب منها ان تكون في مقدمة العاملين على تحرير الحزب من أزمته المالية. يغلق مكاتبها والتخلي عن سياراتها ومرافقيها ومصروفاتها غير الأساسية ، ولكن الأهم من مسألة تحرير القيادة يتجلى بكون الخطة الراهنة لم تكشف ظواهر العجز وأمراض التخلف والشيخوخة التي خلقتها المرحلة السابقة بين صفوفنا والتي فضحها تطور وعي الحزب ورسوخ عقيدته مما أتاح الفرصة لتطهير الحزب منها ، فحسب ، وإنما اتاحت لنا فرصة لكي تعيد تربيتنا لأنفسنا وأن نستغل ضياع القوى الوطنية والتقدمية من أجل العودة إلى الجماهير والتعايش معها والتعلم منها وتعليمها في الوقت نفسه.
فإذا كان أدعياء الثورية الموجودون على الساحة قد تساقطوا تحت ضغط تعقيدات تفاقم الأزمة العامة وتفشيها بين طرفي الصراع ، فکيف يتسنى لعناصر جديدة ان تظهر إلى جانب حزب العمل الاشتراكي العربي؟
إننا اليوم لا نبحث عن ممول ولا نحتاج لحماية وكلما امتدت الفترة الزمنية اطول فاطول فسنكون كابناء شعبنا ، نحتمي بغاية الجماهير ، ونحن ندرس تطورات الأزمة ونفسر بهدوء، وثقة عالية ورؤية متحررة من كل ضغط وتستطلع حركة الواقع الموضوعي والذاتي وايدينا على الزناد، عندما تدعوا الحاجة إلى ذلك .فهل كان يمكن لحزب العمل الاشتراكي العربي أن يعالج ازمته المالية بغير هذه الطريقة الشاملة لوضعه والوضع العام.؟
” ولكن السؤال الهام جدا لا يتمثل بنجاحنا بمعالجة الأزمة وتطهير الحزب وإعادة بناءه ، فهذه تبدو اليوم تحصيل حاصل للطبيعة تربيتنا ونمط التزامنا الثوري . بل أنه يتجلى بماهية القدرة الذاتية التي مكنتنا ، من اختيار خيارنا والتمسك بنهجنا ، ألا تعتقدون معي ان التأمل بتجربتنا الحالية والتعمق بدراستها وتطويرها من شأنه أن يرجع بنا إلى النتيجة التي توصل إليها مؤتمرنا الوطني الثاني ، والتي حددها بمفهوم الشيوعية من طراز جديده؟
ايمكن فصل ظاهرة الحرث والمعاناة التي يعيشها الحزب كله الآن عن ذلك الماضي الذي تصرمت عليه سبع سنوات ، والذي رصد ظاهرة حزب العمل الاشتراكي العربي ، وحدد أفاق تطورها نحو الشيوعية من طراز جديد ؟ .
فإذا سلمنا بهذه الحقيقة ، فلا بد أن نعيد قراءة مراحل تطور حزب العمل الاشتراكي العربي منذ نشوئه حتى الآن : كيف نشأ بكتف الجبهة الشعبية . وكيف انفصل عنها عندما تراجعت عن نهجها الثوري وكيف واجه كافة الضغوط التي تعرض لها وهو أعزل من كل شيء ، الا من سلاح الفكر والرؤية الاستباقية والنضال الذي يترجم الفكر ويؤكد صحة الرؤية .
ولكن كيف يمكن أن يشكل حزب العمل الاشتراكي العربي حاجزاً يحول دون نشوء ظاهرة ثورية إلى جانبه وهو يتراجع عن خط المواجهة مع أعداء الشعب . مع أن عملية التحول في كوبا وفي وطننا العربي كانت مندفعة بقوة زخم الفعل النضالي ، مما اتاح لها أن تتحقق بمعزل عن الأحزاب الشيوعية الإصلاحية ، ومعلوم فإن الاصلاحية ليست بديلا للفاشية ، وبالتالي فإنها لا تملأ الساحة النضالية للدرجة التي تشكل حاجزاً يمنع تحقق عملية التحول نحو الشيوعية دون الارتباط بها ، ومعلوم أيضاً ، فإن التراجع عن المواجهة مع أعداء الشعب قد يترك هو الآخر فراغاً في الساحة ، قد يسمح بنشوء ظواهر ثورية ، فما هو التفسير لعدم نشوئها ؟
1 ـ إن قيام لبنان الكبير قد أدخل التناقضات الطبقية في مأزق التناقضات الطائفية ، مما أدى إلى نتيجتين متناقضتين: أولهما تمثلت بما يمكن تسميته بديمقراطية الطوائف التي حتمتها حاجة المارونية السياسية للتحالف مع الطوائف الأخرى بغية تكريس نظامها الجديد( البنان الكبير ) وما كان لذلك التحالف الذي عبر عنه ما يسمى بالميثاق الوطني أن يقوم ، لولا شعور ممثلي الطوائف الأخرى بحريتهم في التعبير عن وجهات نظرها ومصالحها التي خدمها ذلك التحالف بشكل من الأشكال ، أما النتيجة الثانية ، فتجلت بميوعة الصراع الطبقي بسبب طغيان الصراع الطائفي وهيمنته على حركة الجدل الفكرية والسياسية والاقتصادية ، وقد نجم عن تلك الديمقراطية الطائفية والميوعة الطبقية تكريس الساحة اللبنانية لتكون تربة خصبة للاصلاحية وانتشار الأفكار الداعية لتطوير النظام اللبناني الرأسمالي المتخلف والعميل ديمقراطياً ، مما جعل الأوهام فكراً سائداً في الساحة الوطنية إلى جانب سيادة الأفكار الرجعية ، وضيق نطاق التعبير عن الحاجة للثورة ، لدرجة باتت معها امكانية العمل على الاطاحة بالنظام وتحقيق الثورة الاشتراكية محدودة جداً. ذلك أن الثورة الاشتراكية باعتبارها النقيض الاجتماعي والفكري للرأسمالية لا يمكن أن تنجم عن تفاقم الصراع الطائفي ، وانما تنجم عن تفاقم الصراع الطبقي وتفجره . وبوسعنا أن نرجع هامشية دور الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية عام ١٩٠٨ ، وعدم قدرته على إدراك طابع الحرب الأهلية خلال 1975-1976 ، لهذه الأسباب.
هنا نلحظ فارقاً جوهرياً بين نشأة حزب العمل الاشتراكي العربي ومن نشأة الحزب الشيوعي ، فالأول نشأ نشوءاً ثورياً، وكلكم يتذكر أن أول تعميم صدر من قبل ( ق . م . م ) حول الساحة اللبنانية في الدار ۱۹۷۰ قد حدد مهمة القوى الثورية في لبنان ، بأن تحمل العصا الطبقية لتضرب بها الرجعية ، وان مهمة القوى القومية ، وعلى وجه التحديد المقاومة الفلسطينية ، أن تحمل العصا القومية لتضرب بها الامبريالية والصهيونية ، أما نشوء الثاني ، فقد كان اقليميا – اصلاحيا ، لم يتجاوز طموحه الحصول على رخصة العمل العلني ، لكي يكون معارضة مقبولة من قبل أهل النظام وأربابه.
هكذا تتبين ان نشوء حزب العمل الاشتراكي العربي كان مستقلا عن الطوائف ، في حين ان نشوء الحزب الشيوعي كان بكنف الطوائف ، الأول استمر يتطور بمعزل عن التبعية والذيلية لحركة الطوائف رغم انخراطه في اطار الحركة الوطنية ، أما الثاني فتابع تطوره في اطار الذيلية للحركة الطائفية وعجز عن الافلات من التبعية للزعامات الطائفية ، الأول يتراجع الآن إلى الشعب ليخرج من مأزق العمل الوطني الناجم عن التبعية لحركة الطوائف السياسية اما الثاني فيتابع ضياعه بخضم طغيان صراع الطوائف. الأول يعتبر الصدق والصراحة والمراجعة النقدية الجذرية خصالا من شأن التحلي بها أن يحدد هويته الفكرية والسياسية والنضالية أمام الجماهير الشعبية . أما الثاني فيضطر للكذب والتمويه وتغطية اخطائه بتبريرات ومفاهيم لا تمت بصلة للموضوعية. الأول يرفض ، اليوم ، أن يهدر دم مقاتليه ومناضليه ، تبريراً لوجوده وتغطية لعجز قيادته ، رغم أنه عضو مؤسس وفاعل في جبهة المقاومة الوطنية ، اما الثاني ، فيضطر للاعلام المسلح تبريراً لوجوده وتغطية العجز قيادته. الأول لا يرى امكانية لحل الأزمة ، الا باسقاط النظام بوسائل العنف الثوري ، أما الثاني فيرى امكانية حل الأزمة بوسيلة الديمقراطية البرلمانية ودعوات الاتحاد النقابي العام للاضرابات ( راجع بيان مكتبه السياسي الأخير).
ب – في ضوء هذه الحقائق ، يتأكد أن حزب العمل الاشتراكي العربي لم يتراجع عن جبهة المواجهة مع اعداء الشعب . رغم تجميده لشعار العنف المسلح مؤقتاً وتوجهه لميدان العمل وسط الجماهير ومعها ، لسبب هام جدا . يتمثل بعدم وجود هذه الجبهة اصلا ، رغم وجود خطوط التماس ولعلعة الرصاص بين الحين والحين.
إن رؤية حزب العمل الاشتراكي العربي قائمة على اساس الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية . ونتيجة لتفشي الأزمة العامة بين طرفي الصراع ، فإن السلاح لم تعد له مهمة غير حاجة القيادات للاعلام المسلح والحماية والتشبيح . لذلك فإن حزب العمل الاشتراكي العربي يرى تناقضاً بين مناقبيته وبين استمرار بقائه في جبهة الخداع والكذب والتمويه وتضليل الجماهير لأنه لا يحتاج لتبرير وجوده وتغطية اخطاء قيادته التي تلتزم بأسلوب المراجعة النقدية الجذرية بغية تحويل الأخطاء إلى دروس تهتدي بها حركة الحزب العامة ، ولا يعني موقفه هذا تطرفاً يسارياً وعزلة ومقاطعة للقوى التقدمية و الوطنية .
لقد بقي حزب العمل الاشتراكي العربي ملتزماً بعضويته في اطار الحركة الوطنية المنظم ، ويوم | اقدمت القيادات المتنفذة على حل تنظيمات الحركة الوطنية ، فإنه عقد أمالاً على جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ، وأسهم بتأسيسها وتنفيذ مهماتها . وبعد أن طغت الطائفية على الموقف المقاوم العام وسيطرت على خطوط التماس مع أعداء الشعب . فقد تغير الأمر وضيعت المقاومة الوطنية هدفها الوطني المتمثل بتكريس طريق لبناني وطني للصراع مع الفاشية والصهيونية ، لدرجة بات معها استخدام السلاح جهاداً نضاليا وتضحيات لا تخدم غير تكريس الكانتونات الطائفية والمذهبية . لذا فإن افتقاد الاطار العام المنظم للعمل الوطني ، جعل عملية الالتزام بالصيغ التي تطرح بين الفترة والفترة لا تعدو عن كونها مضيعة للوقت وتخبطاً في متاهات الضياع والذيلية لحركة الطوائف الرجعية . وما لم تتمكن القوى السياسية ذات النفوذ ومصدر القرار في الساحة اللبنانية من تكريس صيغة وطنية لاحتواء كل القوى التقدمية والوطنية ، فإن حزب العمل الاشتراكي العربي لا يرى نفسه مسؤولاً أو معنياً بما يقال ويحكي عن صيغ جبهوية تولد ميتة ، لدرجة يمكن القول معها أن هذه الصيغ لم توضع لتنظيم العمل الوطني ، وانما الهدف منها ان تبرر الادعاء بأن الاهتمام بالعمل الوطني قائم ومستمر ، وأن فشلت صيغة ففي الجعبة صيغ بديلة.
هكذا يتبين أن حزب العمل الاشتراكي العربي لم يتراجع عن جبهة المواجهة مع اداء الشعب وإنما تراجع عن الضياع والكذب والخداع والاعلام المسلح لتغطية عجز القيادات ومتاجرتها بدماء الشهداء بدون شعور بالمسؤولية او احساس بالخجل والحياء.
ج . وإذن يتضح أن حزب العمل الاشتراكي العربي إلى يتوجه إلى الجماهير ، إنما يجسد فناً تكتيكياً بتنظيم عملية تراجعه عن موقع تفشي الأزمة العامة واستفحالها وعزلة القيادات الوطنية عن جماهيرها ، وبوسعنا التاكد من هذه الحقيقة اذا ما تذكرنا أن التراجع في ظرف الهجوم الوطني يعني انتحاراً وعزلة عن حركة الجماهير العامة ، فهل ان معطيات ترجمة خطتنا الراهنة تشير إلى اننا ننتحر وننعزل عن حركة الجماهير العامة ، ام ان العكس هو الذي يحصل ؟
أن بقائنا في موقع الضياع والعجز يحملنا مسؤولية ما تتعرض له الجماهير من استغلال واضطهاد وقمع من قبل اطراف ما يسمى بالصف الوطني والاسلامي ، لذا فإن تراجعنا ليس هروباً من المشاركة بأداء مهام النضال الوطني ، وانما هو تراجع من اجل تمييز حزب العمل الاشتراكي العربي عن بقية الأحزاب والقوى الوطنية ، تمييزاً تلحظ معه الجماهير اننا حزبها الملتزم بقضاياها والمعبر مصالحها والساعي دائماً لكشف الحقيقة أمامها لكي تتعرف علينا جيدا ، من جهة ، ولكي نمنح انفسنا فرصة للبناء الداخلي على أساس ما نطمح إليه من بناء منظماتنا الحزبية والجماهيرية ، من جهة ثانية . وفي خضم الثورية التي تخوضها وسط الجماعي ومعها ،فإننا نغتني تجبرتنا التنظيمية والنضالية وتنضج فكرنا ومعطيات التطبيق العملي الاستباقية. من جهة ثالثة ، ونطهر صفوفنا من مظاهر التخلف والوجاهة والنفعية من جهة رابعة.
د – مما تقدم يتضح الى حزب العمل الاشتراكي العربي بشكل حاجزاً فكريا وتنظيمياً ونضالياً بوجه أية محاولة للبناء الحزبي الثوري. ذلك ان العناصر الطبيعية التي تحاول تأسيس عمل طبيعي ثوري سوف ، تصطدم بفكر حزب العمل الاشتراكي العربي ونهجه المادي- الجدلي الثوري ، اصطداماً اما أن يدفعها للالتحاق به والتحالف معه ، وأما ان تبقى تدور حول نفسها لتنتهي إلى ذات مصير المحاولات التي سبقتها منذ السبعينات حتى الآن من الضياع نتیجه عجزها الفكري عن الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية.
أيها الرفاق،
هذه هي الرسالة التي كتبتها على عجل ، والتي أوحت بها صورة نشاطكم العمل الرائع الذي يعزز الأمل المعقودة الفرع اللبناني ، ليصنع مثالا لنجاح نظرية العمل الشيوعي الثوري العربي الموحد في حيز التطبيق العملي”.
الخاتمة ،
لقد تين لك ايها المناضل الثوري ، أن حكيم وصخر ، قد قدما حياتهما فداء في سبيل إيمانهما العربي . وقبلهما ضحت قيادة الحزب بمورد مالي ، كانت بأمس الحاجة إليه ، لأنه كان المورد الوحيد في ظل تعطيل العمل بالنظام الداخلي والخطط التنظيمية ، وها أنت تشهد ، اليوم ، أن حوالي السنتين قد تعرفنا على كيفية تغلبنا على الأزمة المالية ، التي ما كان بالإمكان التغلب عليها لولا وقوف الحرب كله ، قيادة وقواعد ، وقدة واحدة بوجهها ، ولا بد ان تكرر بهذه الخاتمة ما اشارت اليه الوثائق التي بين يديك ، بخصوص مبادرة منظمات الحزب بالعمل يوماً تطوعياً للمالية المركزية ، وتحويل العديد من أبواب الصرف القديمة إلى واردات. وبهذه التجربة التي سالتها منظمات الحزب يتأكد لك ان المسألة ، ليست مسألة مبادرة قيادية ، بعد أن حاصرها كل الأطراف بالمقاطعة والتجويع بهدف تركيعها وإجبارها على قبول القاعدة السائدة ، اليوم ، في العلاقات بين القوى ” من يدفع يسير”، بل أنها مبادرة القواعد التي ارتقت إلى مستوى معالجة الأزمة . وذللتها ، بجهدها وعملها المثابر ، صحيح أن العديد من اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية ولجان المناطق والروابط ، قد شاركوا بعملية تنفيذ الخطة ، بيد أن استجابة ، بل مسارعة أعضاء الحزب لتطويق الأزمة وحلها ، في العامل الأساسي ، بكل التجربة التي تقدمها لك اليوم.
فهل توسعه ، ايها المناضل الثوري ، أن تستنتج أن القاعة الحزبية، واصدقاء الحزب وإطاره الجماهيري ، الذي شاركوا بدعم موقف الحزب واعتماده على ذاته … إن هؤلاء جميعا ليسوا مع ركوع القيادات وسجودها على محراب الجهات التي تدفع بالدولار؟.
إنني أوافق على هذا الاستنتاج ، ولكن ليس من منطلق كون القاعدة ليست مستفيدة من عملية ، التي تمارس القيادات وانما هي ترفض لاقتناعها بأن مسلكية القبض هذه ، لم تفسد القيادات القديمة فحسب بل أنها خلقت انماطاً جديدة من القيادات ، التصارع من أجل الهيمنة على المراكز الحزبية وأشغالها ، بغية المشاركة العملية بعملية الافساد هذه.
هذا هو حزب العمل الاشتراكي العربي ، وهذه هي مدرسته التربوية فهل تستكثر عليه ان يكون حاجزاً يحول دون ظهور طبيعة شيوعية ثورية ؟
هذه هي مدرسة حزب العمل الاشتراكي العربي .. مدرسة الوفاء للجماهير ، والشهداء ، فإن شئت أيها المناضل الثوري أن تسهم بتنميتها واغنائها فأبوابها مفتوحة أمامك ، أنت الذي يخوض التجربة ، وأنت الذي يصنع المثال فلا أسرار للالهة هنا ، ولا تبجيل للزعامات هنا. ولا وجاهة للقيادات هنا. ولا منفعة نقدية أو عينية يجنيها العضو هنا. فإن شئت ان تنتزع نفسك من مستنقع العبث والفساد والمتاجرة بدماء الشهداء وقوت الشعب … إن شئت براءة مما يتعرض له الشعب. من تدمير وتجويع وهلاك ، فليس امامك غير التراجع عن الموقف” الوطني” ، الراهن الذي لم يعد وطنياً … إن شئت أن تسهم بفضح ذلك كله ويرفع صوتك عاليا بوجه الظلم والعـسف بحق جماهير شعبنا . وبإعلاء كلمة الحق… كلمة الشعب… ان شئت ذلك كله . فهل تجد امامك مدرسة للتربية النضالية الثورية ، غير مدرسة حزب العمل الاشتراكي العربي؟
لا أريدك أن تستغفل ، أو أن تكون مغفلا ، لتتوهم على حزب العمل الاشتراكي العربي ، كله نقاء وصفاء واخلاص وثورية ، وأن عملية التراجع عن الضياع وممارسة النقد والمحاسبة وفقاً لمبادئ المراجعة الجذرية قد جعلت منه حزب الجماهير العربية في لبنان ، الذي لا ينافسه منافس ولا يقوى على مواجهته مصارع …
لا اريدك ان تعيش مثل هذه الأوهام الضارة لذلك ينبغي أن تعلم بأن الأعضاء الذين دخلوا الحزب وتركوه باختيارهم أو بقرارات من الحزب . إذا ما احصيناهم منذ قيام الحرب حتى الآن ، قد يكونون أعداداً ربما تفوق عدد الاعضاء الملتزمين اليوم …
ومعلوم ، فإن عمليات التساقط هذه ، لم تجر بمعزل عن وطاة الضغط التي يراكمها الالتزام بنهج الحزب ومسلكيته الصارمة هذه !…
بعد هذا التنبيه ، فهل ما زلت تتوهم بأن حزب العمل الاشتراكي العربي ، لا يضم اليوم ، بين صفوفه ، غير النقاء والصفاء والاخلاص والثورية ، وهل يمكن أن يكون كذلك ، بل هل نريده نحن – قيادته وقاعدته ـ أن يكون كذلك كله نقاء وصفاء واخلاص وثورية ؟
إن أجبت على هذه الأسئلة بالايجاب فإنني انصحك بعدم الانخراط في صفوف الحزب ، لأنك لو فعلت لخرجت منه بعد حين موصوفا بصفة قد لا تروق لك ، لأنها تضفي عليك لقباً مزعجاً” متساقط “، وهي صفة لا تجردك من صفة “ثوري ” التي سعيت لنيلها ، فحسب . بل انها توصمك بالهروب من تحمل أعباء المسلكية الثورية … مسلكية الايمان بالقضية والاخلاص والصدق والتفاني والتضحية بدون مقابل ، سوى الالتزام بالوفاء الجماهير والشهداء ولكنك قد تتسائل ، بل يجب أن تتساءل لماذا لا نريده نحن أن يكون نقياً وصافياً ومخلصا وثوريا ، فقط ؟
مرة أخرى ، لا بد من مصارحتك : قد يحمل تعبير “لا تريده .. قسطاً كبيراً من المبالغة فلو لم نرده ، نقياً وصافياً ومخلصاً وثوريا ، لافتقدت قراراتنا القاضية بتطهير الحزب ، مضمونها . لماذا نطهره طالما اننا لا نريده أن يكون كله نقاء وصفاء واخلاص وثورية؟
واذن ، نحن ، مثلك ، نريده أن يكون كله نقاء وصفاء واخلاص وثورية. يبد اننا ندرك . أن المسألة لا تتوقف على رغبتنا ، فنحن حزب جماهيري ، ولسنا جمعية ثقافية ، لا تقبل بصفوفها ، غير من ترغب هي بقبولهم . إننا حزب عليه حق لكل مواطن ومواطنة ، بأن تكون عضويته مفتوحة لهم ، وما لم تؤكد التجربة ، عدم أهليتهم للعضوية ، فإن أحدا أو جهة في الحرب ، لا تمتلك حق التخلف والفساد و حرمانهم من العضوية ، وبما أننا نعترف جميعاً بحجم التخلف ، والأوهام التي تعبث بأذهان جماهيرنا ، فإننا ملزمون بمراعاة التوفيق بين حق المواطنين بالحصول على العضوية وحق الحزب في أن يبقى نقيا وصافياً ومخلصاً وثوريا ، وهذه المراعاة هي التي تفرض عليه ، الالتزام بالقاعدة المعروفة والحزب يقوى بتطهير نفسه.. من التخلف والفساد والأوهام ، التي تفعل بقوة خلال مرحلة الضياع والتساقط والانهيار الاحزاب هذه. والتي تنعكس على اذهان اعضائه وتترك بصماتها على مستويات معارفهم وقدراتهم على الرؤية. غير ان عملية التطهير هذه، لا تنفذ بناء على رغبة ذاتية تسعى لابقاء الحزب نقياً وصافياً ومخلصاً ثورياً . وانما تحتمها المراجعة النقدية الجذرية . التي تدعو اليها وتحتمها ايضاً نتيجة الاستطلاع وتحديد الرؤية الموضوعية والذاتية وهي نتيجة لا يمكن استخلاصها ورؤيتها . قبل ان تبلورها افاق التطورات اللاحقة . التي تلعب الصدف دوراً هاماً وأساسياً في كشف اسرارها وتحديد توجهاتها وآفاق نزوعها لذلك. تصبح الرغبة في بقاء حزب العمل الاشتراكي العربي. نقياً صافياً ومخلصاً ثورياً، بدون شوائب ، مثالية، في حين إن كشف الحاجة للتطهير مهمة تحتم اداءها تطورات حركة الواقع الموضوعي العامة . وحركة الحزب النضالية المواكبة لها ، اداء يتكشف عبره ومن خلاله ، ما نطلق عليه ، مبالغة ، تخلفاً ونفعية، وانتهازية،. اطلاقاً يدعونا للقيام بعملية التطهير من أجل ان نحرر الحزب من الوهن والضعف الذي يسببه انعكاس امراض الكائن الاجتماعي والوعي المعبر عنه ، عليه .
اننا ندرك حق الادراك ، ونعرف حق المعرفة ، أن مجتمعنا بعيش اليوم فضلا عما فعلته الطوائف والمذاهب المتضاربة ، من عبث باذهان الجماهير … فضلا من التخريب الطائفي ، فإن المجتمع يعيش النتائج السلبية للحرب التي طال أمدها بدون جدوى ، والتي أدت إلى انحطاط جميع طبقات المجتمع لدرجة ان الأعمال الهمجية والبربرية بررتها المذاهب والطوائف واعتبرتها ممارسات واعمال ثورية ، دون مراعاة لسمعة الانسان اللبناني ومكانته في المجتمع البشري ، ولكن هذه الحالة المزرية من كل النواحي التي بلغها المجتمع بقدر ما تدعونا لتشديد الرقابة على تركيبة الحزب وابقائها نقية قدر الإمكان ، فإنها تحثنا على الالتصاق بشعبنا أكثر فأكثر والتعلم منه ، وتعليمه ، أكثر فأكثر ، إذ ليس أمام العمل الثوري حقا طريقاً آخر ، غير طريق العمل وسط الجماهير التي انهكتها الحرب وأفسدت وعيها الطوائف واننا لواثقون بأن شعبنا سيخرج من هذه المعاناة ، بما يتيح له التحرر من الفساد ومصادره ، ويمكنه من اعادة بناء مجتمعه بشكل يليق بشعب ينبغي أن يكون موقعه بين مواقع الشعوب المناضلة في سبيل تحررها وتقدمها .
. ولعلك أيها المناضل الثوري ، تتساءل ، عما إذا كان تراجعنا عن خطوط تماس اقطاب” الدولة” ، الموجودة وغير الموجودة في الآن نفسه … موجودة بوجود رموزها والاستغلال والاضطهاد والقهر والموت ، التي يمارسها رموز دولة الحزب والتدمير والتخريب والهلاك . وغير موجودة أمام انظار الجماهير ، التي بانت عاجزة عن محاسبة المسؤولين عن الحالة التي تعيشها اليوم … لعلك أيها المناضل الثوري تطرح مثل هذا السؤال؟
اما جوابنا فلن يكون غير التأكيد على حد سك وادراك ، ذلك أن الحالة التي تعيشها جماهيرنا … حالة الأمر الواقع المفروض عليها ، تدعو كل مناضل واع لمضمون التزامه الوطني ، ومخلص لشعبه لأن يكون مع الجماهير بعيش معاناتها ويبذل أقصى ما لديه من طاقة وجهد ، من أجل مساعدتها على الخروج من محنتها!…
إذا كان مبرراً ـ وهو لم يعد مبرراً اطلاقاً ـ وجود خطوط التماس واستمرار التراشق المدفعي والصاروخي مع القوات الفاشية ، فما هو مبرر حرب المخيمات ، وما هو مبرر حروب الزواريب التي توجت مأساة بيروت الغربية في شباط ۱۹۸۷ ، بل وما هو مبرر اقتتال المنظمات الشعبية فيما بينها؟
ولكن الأهم من الأسباب الداعية للاقتتال ، يتمثل بالنتائج المدمرة التي كانت وما تزال الجماهير تتحملها ، من رأي قيادياً وطنياً او مسلما أو مسيحياً مات في ميادين حروب الزواريب وخطوط تماس الدولة الموجودة وغير الموجودة في الآن نفسه؟