_هاشم_علي_محسن_سنبقى_أوفياء

سنبقى أوفياء (٨،٧،٦)

الحلقة الثامنة

سنبقى أوفياء، 

كان المفترض أن يطالع القراء الحلقة السابعة في العدد الماضي. ونظراً لكونها تناولت قمتي عمّان وبغداد والانتفاضة الفلسطينية، فقد رأينا ان نشر وجهة نظر اللجنة المركزية العربية حول الانتفاضة، يغني عن نشرها، لذلك فإننا نعتذر عن عدم التنويه في العدد الماضي ، وننشر بهذا العدد الحلقة الثامنة.

” هيئة التحرير ” 

ان استعراضنا السابق قد اوضح، بما يكفي، مقدار الجهد الذي بذله حزب العمل الاشتراكي العربي، من اجل اقناع القيادات الوطنية وهدايتها لامتلاك منهجها الوطني والالتزام به والسير في ضوئه، لكي تبلور بديلاً وطنيا يعبر عن مصلحة الجماهير ويناضل في سبيل تحقيقها. اما مقالتنا اليوم، فإنها ستدور حول رؤيتنا لامكانية خروج العمل الوطني من مأزقه الراهن.

1

 اذا القينا نظرة الى الظرف الموضوعي الراهن، فماذا نرى ؟ 

أزمة عامة متفاقمة لدرجة يندر مثالها، ليس بمراحل تطورات الازمة العامة لنظام الرجعية والعمالة، فحسب، بل وفي تجارب الشعوب الاخرى أيضاً ، أوضاع اقتصادية لا طاقة للشعب على إحتمالها.

 مجتمع تمزقه صراعات الإحتراب الطائفي، وتتحكم به قيادات ليس لها هدف سوى الإثراء غير المشروع!..

وطن تمزقه الكيانات الطائفية، لدرجة أصبحت معها ارضه مقاطعات لجباية رسوم الخوة و موانىء للتهريب لصالح قياداته السياسية وسماسرتهم التجار. واقتصاده الوطني منهار، وقيمه الاخلاقية والثقافية، تعاني من طغيان خزعبلات الطوائف وترهاتها!..

وفوق تراب الوطن يدور صراع سياسي حول انتخاب رئيس للجمهورية لن يكون غير تلميذ ” نجيب ” لسلفه الذي استغل مركزه ليحول القصر الجمهوري الى مركز للمضاربة بالدولار، على حساب اقتصاد وطنه، لدرجة تدنى معها سعر صرف الليرة التي هي الوحدة النقدية للاقتصاد الوطني، فأصبحت مجرد ورقة، اذا ما رآها طفل في الطريق لن يجد فيها ما يغريه لالتقاطها!..

لقد شمل التخريب والتدمير، كل نواحي الحياة المادية والمسلكية، لدرجة أمست معها القواعد والاعتبارات الاخلاقية والانسانية، والتقاليد السياسية تتزعزع وتتدهور، كل يوم، أكثر من اليوم الذي سبقه.

 أما ارتفاع الاسعار، نتيجة تدني سعر صرف الليرة، فقد ادى وسيؤدي الى مزيد من الافقار والشقاء والجوع المتفاقم لفقراء الجماهير، ولسائر الكادحين.

2

 أن الحرب الأهلية عندما يطول أمدها نتيجة عجز قوى الطرف التقدمي عن بلورة منهجها وثبات موقفها ووضوح هدفها، تفقد طابعها وتتحول الى أزمة عامة متفشية بين طرفي الصراع، تحولاً يجعلها كارثة كبرى، وانقلاباً في حياة الانسان، من شأنه أن يشيع البلادة بين اوساط الجماهير، فلا تعود ترى غير التخلص من الحرب واحلال ” السلام ” محلها بأي ثمن، ومع ان “السلام ” الذي يحققه وفاق قوى الطائفية والرجعية، لا يمكن ان يحرر الجماهير من الشقاء والبؤس والجوع. ولكن وطأة الشقاء والبؤس في ظل الحياة الاعتيادية، غير وطأتهما في ظل الحياة الملغومة بالقذائف العشوائية والحواجز الطيارة والخطف على الهوية، او الخطف مقابل صفقة مالية.

أن طابع الحرب الأهلية، كما هو معروف، متناقض على طول الخط، وهذا ما يميزها عن الحرب الاعتيادية، التي يمكن ان يكون طابعها متناقضاً، مثلما يمكن أن يكون منسجماً، اما السبب الذي يجعل طابع الحرب الاهلية، يعكس حالة واحدة فقط، فيتمثل بكونها   (الحرب) تنشب بين طرف تقدمي وآخر رجعي.

 أن عجز الطرف الرجعي عن احراز النجاح بتصفية خصمه التقدمي لا يكشف ضعف وعدم استطاعته التغلب على خصمه، فحسب، وانما يؤكد تخلفه عن مواكبة حركة تطور المجتمع وعجزه عن تلبية المستلزمات والمتطلبات والحاجات المستجدة التي اصبحت حياة الناس تتطلبها.

 ولكن، في مقابل ذلك، فإن عجز الطرف التقدمي، عن اسقاط سلطة خصمه، يبقي الحرب تدور في حلقة مفرغة تفقد طرفيها القدرة على السيطرة عليها، فقدانا تتفشى معه الازمة في صفوفهما، وتمسك بزمام حركتهما، فيتغير طابع الحرب ويصبح منسجما بعد ان كان متناقضاً…

 ولكن، ماذا يعني ذلك.. ماذا يعني فقدان الحرب الاهلية لطابعها المتناقض، واكتسابها طابعا جديدا منسجما؟

انه يعني، ببساطة، فقدان الطرف الوطني لتقدميته ولولا ذلك، لبقي طابع الحرب متناقضا، اي بين التقدميين والرجعيين!..

واضح أن الطرف التقدمي، رغم المأزق الذي تحشره تطورات الحرب فيه، يبقى يتميز عن الطرف الرجعي، بامتلاكه هامشاً للتراجع، وكمكمة بنادقه وفق خطة مناسبة، تمكنه من تقليل خسائره، اما الطرف الرجعي، فمحشور بمأزق عجزه، ولا يملك امكانية للتراجع الذي يعني نهايته وموته.

ان العجز عن حسم الموقف، يطرح علامة استفهام هامة جداً، فحواها يتعلق بالدافع الذي يجعل الطرف الوطني متشبثاً بالحرب ومتمسكاً باستمرارها؟

3

إن الحالة الراهنة ليست وليدة الصدف، ولا هي نتيجة انحراف او خيانة افراد معينين، وانما هي نتيجة تطور موضوعي وذاتي لقوى اجتماعية – سياسية، عاشت مرحلة، بل مراحل تاريخية كاملة، ما كان يمكن للتطور التاريخي، في ظلها، الا ان يبلغ الوضع الراهن. لذلك فإن ما يحدث اليوم، ليس وليد فتنة طائفية كما كان يتوهم ادعياء الشيوعية، وليست مجرد رغبة فاشية في التخلص من «اليسار المخرب» كما كان يتوهم الفاشيون، بل ان الحالة المتردية التي يعيشها الطائفيون والمذهبيون وذيولهم الوطنيون، هي الدليل على ان الجميع كانوا أسرى حركة الواقع التي عملوا على استفحالها، في فترات متلاحقة، حتى اصبحت أقوى من الجميع وبات الجميع منقادين تحت ضغط تيارها!

ملحوظ أن الحرص على استمرار حالة الحرب، يماثل العجز عن تحقيق الانتصار. فمثلما يتشبث طرفا الحرب بخطوط تماس عجزهما عن التغلب على بعضهما البعض، فإنهما يحرصان على استمرار الحرب ويرفضان وضع نهاية لها. والسؤال هو لماذا؟

ما هو مضمون الحرب، بعد ان فقدت طابعها المتناقض، ولماذا يحرصون على استمرارها؟

أن الطرف الفاشي يملك جواباً واضحاً ومحدداً: “انني لا املك هامشاً للتراجع. وأي تراجع لا يعني غير نهايتي فإن كان بوسعكم اجباري على التراجع، فتفضلوا جربوا قدرتكم”!

اما الطرف الوطني، فلا يملك جوابا غير التبرير الذي فقد مضمونه ومحتواه، فمع استمرار الحرب، تبين كيف تحولت الحرب الى حرب امتيازات وامتيازات مضادة!..

4

هذه هي الفضيحة، التي باتت مرئية من قبل الجميع، ولم يعد احد من المسؤولين الرسميين وغير الرسميين.. الرجعيين والتقدميين… الفاشيين والوطنيين، يستحي منها:

ان خطوط تماسهم جميعا تسخن او تبرد، حسب الحاجة، فكلما اقتضت الامتيازات والمصالح؛ رفع سعر الدولار او خفضه. كلما اقتضت مكاسبهم تسخيناً، ينثرون القذائف نثراً عشوائياً. وان استدعت تبريداً، اوقفوا القذائف وفتحوا بوابات العبور للناس المحاصرين بنيران قذائفهم! أليس هذا هو مضمون الحرب، اليوم ؟

ثم اليس هذا هو الدافع لحرص القيادات في «مناطقنا الوطنية» ايضاً، على الفصل بين مسألة اجراء انتخابات رئاسة الجمهورية، عن مسألة استمرار الحرب، وتأكيداً لطائفية مركز الرئاسة، فإن مرشح «مناطقنا الوطنية» ماروني ايضاً، لماذا يتم التمييز بين الحرب وانتخابات الرئاسة؟

ليس هناك جواب منطقي، مهما تفننوا بصيغ التبرير، غير ان رئاسة الجمهورية، امر يتطلب المعالجة العاجلة، في حين ان الحرب يجب ان تستمر. ففي اجراء الانتخابات الرئاسية يحافظون على شكلية « الدولة » اللبنانية الواحدة، وفي استمرار الحرب يحافظون على دويلاتهم الطائفية، وبهذا الاسلوب يزجوننا بدوامة التصريحات والخطب، وعندما يستهلك الكلام يلجأون الى النار فيوعزون لأزلامهم بتوزيع القذائف على السكان لكي يفهموهم ان الحرب مستعرة وان الدولار طالع!

 لقد كان خوض الحرب مناهضة للفاشية وعملاء الصهيونية. وما أن حققت الجماهير انتصاراتها الباهرة على أعدائها الفاشيين والصهاينة ومتعددي الجنسيات الامبرياليين، حتى بدأ الانقلاب على الموقف الوطني وإذا « بمناطقنا الوطنية »، تتحول إلى كانتونات طائفية. ومع تحولها فقدت الحرب طابعها وتحولت إلى وسيلة لتعزيز الامتيازات والمدخرات ورصيد البنوك والشركات ولم تعد حرباً ضد الفاشية، كما كانت من قبل، لذلك فان العمل على استمرارها، لن يخدم غير اعداء الشعب.

ونظراً لهذه الحقيقة فإن الواجب الوطني، يحتم على كل وطني حقيقي أن يناهض استمرار الحرب ويحرض الجماهير ضد دعاة استمرارها ورموزها!..

 هل هناك من يجادل حول زراية وضع العمل الوطني؟

 قد يقال أنه كان مزرياً، ولكنه ازداد اليوم. وعلينا أن نسلم بما يقال. ولكن، ألا يتضح أن حالة تردي العمل الوطني، لا تجد تفسيرها بغير هيمنة القيادات الطائفية، على الموقف الوطني ومصادرته بالكامل؟

ليسأل كل تقدمي ووطني، نفسه، السؤال التالي: من أجل، أي هدف تتصارع القيادات والقوى الطائفية؟ فإذا كان الجواب واضحاً: من أجل إعادة اقتسام الحصص في المجلس النيابي وما ينجم عنها من مغانم ومكاسب لهذه الطائفة أو تلك، لهذا الزعيم الطائفي أو ذاك… إذا كان هذا هو الجواب، فهل أن اقتساماً كهذا لو تحقق سيكون حلاً ناجعاً للأزمة، أم أنه سيكون مرحلة عابرة سرعان ما تعود الأزمة بعدها للتفاقم؟

إن استمرار الحرب لم يجلب للقيادات الطائفية، الأرباح الطائلة نتيحة المتاجرة بقوت الشعب وكل وسائل حياته الأخرى، فحسب. بل جلب لهم ظروفاً ساعدتهم على سحق الجماهير الشعبية ودق اسفينهم الطائفي بوحدتها الوطنية، وإفساد وعيها وتشويهه، وبجعل الشعور الديني الطائفي، طاغياً على شعورها الوطني والتقدمي. وليس معقولاً، أن يبقى الوضع يدور بهذه المطحنة، دون أن يدفع الشعب للتفكير بمخرج… بطريق للخلاص يتيح له أن يتنفس الصعداء ليخفف من شدة اختناقه.

وهل هناك طريق لخلاص الشعب، غير إيقاف هذه الحرب القذرة بمضمونها وادواتها؟

ليس، في لبنان انسان غافل عما فعلته حرب الطوائف والمذاهب وزواريب دكاكين القيادات الضيقة. وبدلاً من أن تبذل القيادات في «مناطقنا الوطنية» ما يتوجب عليها عمله من أجل وضع حد لحالة الفقر المدقع والشغب الموجع، راحت تنافس القوى الفاشية في فتح المصارف والموانىء بغية المضاربة بالعملة الوطنية والمتاجرة بقوت الشعب، والمشاركة بابتزاز الأرباح ورفع الأسعار لدرجة فاحشة وبصورة فاضحة لا مثيل لها في التاريخ، حتى لكأن صراعها مع القوى المارونية السياسية، لم يكن إلاّ من أجل هذه الغاية. فبدلاً من أن تتعلم من الجماهير طموحها ومصالحها، راحت يتعلم من الرجعية المارونية، أساليبها في الاستغلال وامتصاص عرق الكادحين واذلال الوطنيين. تصوروا طبيعة الحواجز التي ” تحرس ” “مناطقنا الوطنية ” والخوات التي يجبيها ” حراس مناطقنا الوطنية ” التي لا يجرأ وطني على حمل السلاح أو التفوه بكلمة، قد لا تروق لأولئك ” الحراس ” فيها، لكي لا يتعرض للخطف وفقاً ” لشريعة ” الغاب المذهبية أو الطائفية!..

إن السؤال الذي يزداد إلحاحاً، يتعلق بعلاقة القيادات في « مناطقنا الوطنية »، بمعاناة الجماهير الشعبية الكادحة التي يتفاقم انسحاقها من جراء الغلاء الذي يمارس ضدها، بغية اثراء رصيد القيادات في المناطق الفاشية « واختها » التي في « مناطقنا الوطنية ». هل تشعر هذه القيادات بآلام الجماهير وبؤسها الذي يزداد تفاقماً من جراء استمرار حرب خطوط تماس الطوائف العسكرية ومصالحها الاقتصادية، التي تغذيها وتنعشها وتنميها المضاربة بالدولار ” الامبريالي “!

أتتحسس القيادات في « مناطقنا الوطنية » بمعاناة العمال والفلاحين والحرفيين الذين باتوا عاطلين عن العمل من جراء توقف أعمال مهنهم، وسائر الكسبة والكادحين؟  أين ومتى لمست الجماهير إحساساً كهذا؟

  • إنّ القاء بمستنقع الضياع سينتهي بالعمل الوطني من التدهور
  • إنّ نشاط الاحزاب الوطنية اليوم من حيث مضمونه واسلوبه
  • لا يمت بصلة الى الجماهير ولا يثير اهتمامها

4

وأمام وضع كهذا، فهل يلقى اللوم على الفاشيين والرجعيين والقيادات الطائفية في ” مناطقنا الوطنية “… هل يلقي اللوم على هؤلاء الذين حولوا الحرب الأهلية، إلى حرب لتجويع الجماهير الشعبية، ووسيلة لإثرائهم؟

وهل يجدي لوماً أو تأنيباً كهذا؟

أليسوا هم أصحاب مصلحة باستمرار الحرب طالما أنها أصبحت وسيلتهم الأفضل للبقاء في السلطة وابتزاز الأرباح والفوائد الطائلة؟ قبلاً كانوا يواجهون حركة جماهير شعبية تطالبهم وتجبرهم، أحياناً، على الاستجابة لمطالبها. أما اليوم، فالجماهير مسحوقة، وهم يتوزعون الأدوار في كيفية استغلالها وازدياد سحقها. فلماذا يوقفون الحرب، إذن؟

ولكن، أين هي الحركة الوطنية… أين أحزاب الحركة الوطنية، التي يفترض فيها، أن تكون الناطقة بلسان حال الجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها، والمقاتلة في سبيل الاطاحة بأعدائها؟

إنها غاطسة بوحل المستنقع اللبناني، تقبض بالدولار مثلما يقبض غيرها وتمارس خداع الجماهير، مثلما يمارس غيرها، يتناقض يومها مع امسها، فتضطر للذرائعية بغية تغطية إفلاسها، الذي أصبح مسلمة من المسلمات، لدى كل من لديه رغبة في النظر للواقع الراهن، بمنظار الشعور بالمسؤولية والقدرة على الاعتراف بحالة العجز السائدة. أما الذين لا يرغبون في النظر للأمور بمنظار العلمية والموضوعية، فهم عاجزون، حتماً، عن الاعتراف علناً وعلى رؤوس الاشهاد بالحقيقة، طالما أنهم لا يرون فائدة شخصية أو مصلحة حزبية ضيقة، بمثل هذه الرؤية.

لست اظن مجادلاً يكابر بانكار أن الوضع الذي تعيشه الحركة الوطنية، ليس وليد الصدفة، او خطيئة ارتكبتها هذه القيادة او تلك، وانما هو نتاج لمرحلة تاريخية كاملة. فعلى مدى اربع وستين سنة كان هدف الحزب الشيوعي، ان يكون مقبولاً من قبل أهل النظام، لكي يمنحوه اجازة، وقد بلغ الأمر بقيادته درجة كادت معها ان تفقد وعيها من شدة فرحها بفوز فرنجية برئاسة الجمهورية. ليس لسبب سوى أنه من الشمال وامينها العام من الشمال أيضاً، ووجود معرفة بينهما قد يحقق هدفها. لذلك اعتبروا فوزه انتصاراً للديمقراطية، أي فوزاً لهم بالحصول على رخصة للعمل العلني المجاز به من قبل الرجعية!..

وقبل ذلك، تراجع الحزب الشيوعي عام 1969، عن تضامنه مع القوى الوطنية لدعم المقاومة الفلسطينية عندما رأى ان تلك المسلكية النضالية، قادته  الى التصادم الساخن مع السلطة الرجعية وعام 1975 اعتبر الحرب مجرد فتنة طائفية يمكن وضع حد لها بنكران طابعها وتوزيع الورد على المارة ليقتنعوا الانخراط في ميدانها. ولم تكن مواقف الحزب او ممارساته تلك، سوى بعدم تعبير عن حرصه على ان يكون مقبولاً من قبل القوى التي يطالبها بمنحه شرعية العمل السياسي العلني!..

  • لقد فقدت الحرب طابعها ولم يبق لها هدف ،
  • غير هدف استنزاف الجماهير وسحقها ،
  • أنّ الظروف مهيأة للتغيير بيد ان العامل الذاتي مفقود

بسبب بقاء الاحزاب الوطنية والتقدمية اسيرة ارادة القيادات الطائفية .

وعندما يكون هذا هو هدف الحزب الشيوعي الاساسي، فهل يمكن ان تتكون حركة وطنية وتتشكل على غير الشاكلة المعروفة، فهل يمكن ان يقود هذا النمط من الاصلاحية الى غير هذه الحالة المزرية، التي تزداد زراية كلما بلغت التطورات الموضوعية، مرحلة جديدة؟

إننا نفهم الهروب ممن مواجهة مصاعب العمل الوطني الجدي، خلال هذه المرحلة، بكونه تعبيراً عن طبيعة أبرز احزاب الحركة الوطنية. اذ ان معظم هذه الإحزاب، قد نشأ وترعرع بكنف الطوائف وقواها السياسية، نشأة وترعرعاً، بقدر ما وفرا له حماية امنية، فانهما فعلا فعلهما، على مر السنين، بجعله ملحقاً بذيل الحركة السياسية الطائفية. لذلك نلحظ ان تفاقم أزمة الطوائف التي هي وجهاً من وجوه الازمة العامة للنظام الرجعي الطائفي، قد خلقت أزمة حادة لهذه الاحزاب، بدلاً من ان تطرحها بديلاً سياسياً واجتماعياً للرجعية وطليعتها الفاشية.

إن العلاقة بين ازمة الحركة الوطنية، وازمة طوائف النظام العامة، واضحة، رغم اختلاف الازمتين من حيث الجوهر. فالاولى ازمة عجز عن طرح البديل الذي يجعل الحركة الوطنية متميزة عن القوى الطائفية بهدفها الاستراتيجي ومشروعها التكتيكي النضالي، الذي يتعزز بتفاقم أزمة العدو الطبقي. اما الثانية، فازمة عجز عن معالجة الازمة العامة والخروج من مأزق تفاقمها. لذلك نلحظ ان كلا الازمتين تابعتين من مازق تفاقمها. لذلك نلحظ ان كلا الازمتين نابعتين من حالة العجز التي تعيشها كل من القوى الطائفية والاحزاب الوطنية.

لقد عارضت الاحزاب الوطنية نشوب الحرب الاهلية خلال اواسط السبعينات. ولكن معارضتها لم تكن قائمة على رؤية علمية – موضوعية. فلو أنها شخصت طبيعة الحرب وحددت طابعها العام، بكونها حرباً أهلية فعلاَ، وبناء على هذا التشخيص والتحديد، اتخذت موقفاً معارضاً يستند الى حيثيات علمية وموضوعية، أيضاً، كأن ترى أنها لا تستطيع طرح شعار اسقاط النظام، لاسباب خارجية تمنعها من تحقيق شعارها وتسبب للجماهير ويلات وكوارث بدون جدوى… لو أنها بنت معارضتها لحيثيات منطقية وواقعية، لوجدت نفسها صاحبة وجهة نظر ومنهج يحظى باحترام الجماهير وثقتها.

ولكن معارضتها كانت قائمة على اساس ان الحرب ليست سوى فتنة طائفية، وبالامكان العمل على تلافيها، الامر الذي ابقاها تتخبط في متاهات السير بذيل حركة الواقع، فكلما وقفت الحـرب، نزل اعضاؤها يوزعون الورد على المارة تيمناً بالسلام وشجباً للفتنة الطائفية، وما أن تعود الحرب للتفجر من جديد، حتى يتراجع موزعو الورود، امام اصطراع المدافع!..

 هكذا دامت الحال حتى باتت الحركة الوطنية ذيلاً لقوى الحرب الفعلية، وكان تشتيت القوى الطائفية نتيجة الهجوم الصهيوني، كفيل بتشتيت القوى الوطنية بحكم ذيليتها وتبعيتها لها.

5

كان العمل الوطني قائماً، حسب منطق قياداته، على اساس تحقيق التغيير بتركيبة النظام، بالاستناد الى قوى الطوائف التي كانت توصف بالمظلومة. وقد دلت التجربة المريرة على خطل هذا المنطق، اذ تبين ان هذه الطوائف، ما ان امتلكت حريتها، حتى راحت تتمادى بممارسة الظلم، بشكل لا يقل عن مسلكية الطوائف التي كانت تظلمها.

وامام هذه التجربة، فان المنطق الداعي للحرص على التحالف مع بعض الطوائف وقياداتها واحزابها، يتحمل مسؤولية الحاق قوى واحزاب العمل الوطني بالقوى الطائفية.

إن الغريب بموقف هذه الاحزاب انها كانت تعارض الحرب واستمرارها وكانت تصفها خاصة قيادة الحزب الشيوعي بالحرب الطائفية، مع أنها كانت حرباً أهلية. أما اليوم، وبعد ان تفشت الازمة العامة، بين طرفي الحرب وهيمنت على مصيرها القيادات الطائفية، المتصارعة دفاعاً عن مناطقها وطوائفها… أما اليوم، وبعد ان فقدت الحرب طابعها الطبقي، نتيجة الطغيان الطائفي، فانها تستمر بحمل السلاح، وتتمادى في السير بكنف القيادات الطائفية، وبتكرار المفاهيم والشعارات التي تحولت الى وبال على الجماهير، ينغص عيشها ويذيقها مرارة الذل والاهانات والاعتداءات، وخنق الحياة في ما يسمى بـ «مناطقنا الوطنية».

إن السؤال الهام الذي يتطلب جواباً عاجلاً وملحاً هو: لماذا تستمر الاحزاب الوطنية والتقدمية، بحمل السلاح، ولماذا تتسابق باطلاق التصريحات والخطب التي تظهر حرصها على الدفاع عن ” مناطقنا الوطنية ” . فهل بقيت مناطق وطنية، بكل معنى الكلمة، اذا ما استثنينا المنطقة الشمالية، موجهة من قبل الحركة الوطنية. أم أن التبعية للقيادات الطائفية في “مناطقنا الوطنية ، هي التي تدعو لذلك؟

ولكن، ما معنى مسلكية كهذه، غير تدعيم اوضاع قيادات باتت تسهم باستنزاف الجماهير وسحقها؟

فهل يبقى وطنياً، بل تقدمياً، ذلك القائد او الحزب، الذي يساعد على استنزاف جماهيره وسحقها؟

ألا تلاحظون حجم الافلاس الذي يعانية العمل الوطني، من دوامة الدوران في الحلقة المفرغة، التي تتخبط فيها مهرجانات الاتحاد العمالي النقابي العام، فهل سألتم انفسكم عن السبب الذي يحول مهرجانات واضرابات ينظمها النقابيون، الى نشاط هامشي، ضرره أكثر من فائدته للجماهير؟

إن الاضراب سلاح فعال يستخدمه العمال في العالم كله، ضد ارباب العمل، أما في لبنان ، فان الشعب كله يضرب دون ان يؤثر على أحد. او يحقق نتيجة ملموسة. على العكس تماماً، اذ كلما نظموا اضراباً، كلما ارتفعت الاسعار، أما سبب ذلك، فيرجع لكون هذه الاحتجاجات والاضرابات تسجل ضد مجهول.

هذه اللعبة الخبيثة التي تشارك احزاب العمل الوطني في استمرارها. فلو كان هناك دولة رجعية، وحصل اضراب كالاضرابات الشاملة هذه هي التي تحدث، اليوم. فهل كان بامكان الحكومة ان تدير ظهرها لها. أم أنها، تحشر بمازق الخيارات الصعبة: أما ان تلبي المطالب، وأما ان تقمع المضربين فتزيد الحقد الطبقي وتلقي زيتاً على ناره.

إن الدولة موجودة، وغير موجودة في آن معاً. أنها موجود بوجود وغير موجودة لأن هذه العناصر لا تتحمل مسؤولية اعمالها وممارساتها ضد الجماهير.

اليست الفائدة مشتركة بين الاطراف المهيمنة على الوضع في لبنان، ثم اليست هذه الاطراف هي التي تجوع الجماهير وتسحقها، كل في مناطقه؟

ثم أليست الدولة اداة قمع طبقية لصالح السيطرة والاستغلال، تستخدمها قوى طبقية ضد الطبقات الكادحة. واذن، فالدولة موجودة، سواء تمثلت بوزراء الحكومة الذين يقبضون دون حسيب او رقيب، او تمثلت بالقيادات والاحزاب وتجار المضاربة بالدولار.

6

إن الوطنية بالنسبة للجماهير الشعبية، نظرة جدية للواقع، تميز على اساسها، بين المعبرين عن مصالحها والمدافعين عن حقوقها، وبين اعدائها المستحوذين على هذه المصالح والحقوق، وليست قناعاً لتمويه الحقائق وتزيين الوقائع، تبريراً لتكرار الفشل وستر الدجل وسقوط القيادات بمستنقع المحظورات على العاملين في حقل العمل الوطني. وفي ضوء هذه البدهية فلا ان يفهم افلاس الحركة الوطنية، بكونه جنوحاً نحو خيانة الجماهير واللعب على مصالحها ومساومة اعدائه عليها.

إن الحقيقة التي لا مراء فيها، تتمثل بكون العمل الوطني قد بات مجرد كلام عن الشعب ومصلحة الشعب، أما من الناحية الفعلية فانه التحاق وذيلية للقوى الطائفية المسؤولة عما آلت اليه حالة العمل الوطني. وما لم يفهم قادة الحركة الوطنية استحالة اعادة عجلة التطور التاريخي، الى الوراء، او وقف سيرها، فأنهم سوف يبقون يراوحون في مواقعهم الراهنة. عنيت أن تفشي ازمة النظام العامة، سوف يبقى ينخر في أوصال القوى الطائفية، حتى يتفجر الوضع على رأسها.

وليست هذه الحالة طارئة او عابرة، بل أنها ابرز سمات مرحلة الازمة الثالثة، ولا يتصورن أحد نجاح معالجة وفاقية بين القوى الحالية، من شأنها ان تنتشل النظام وقواه الطبقية من مستنقع أزمتها العامة، بل ستعود الازمة للتفاقم كلما نجحوا بتهدئتها. فاذا ما استمرت الاحزاب الوطنية تراوح في ذيليتها وتبعيتها للقوى الطائفية، فانها سوف تبقى مأزومة. وسوف تواجه ظروفاً أصعب بكثير من تلك الظروف التي واجهتها عام ١٩٨٢ والتطورات التي نجمت عنها.

  • ان تياراً ثورياً سينبثق من واقع المأساة الراهن .
  • ان وفاق قوى الطائفي والرجعية لا يمكن ان يحرر الجماهير من البؤس والجوع ،

إن البقاء بمستنقع الضياع الطائفي، سينتهي بالعمل الوطني الى مزيد من التدهور، وقد لا تجد قياداته والناطقين باسمه، مجالاً للهرب. لذلك ينبغي ان تخرج الاحزاب والمنظمات الوطنية، من دوامة الازمة، لتمتلك ناصية موقفها وتحدد هدفها ووضوح منهجها بحرية تتوفر لها لأول مرة في تاريخ العمل الوطني!..

يقولون: ”  اذا كان بوسع المرء ان يحتذي خفين رقيقين ويسير على الارصفة المبلطة في مدينة نائية صغيرة، فأنه يستحيل عليه الاستغناء عن حذاء ضخم ذي مسامير حين يسير في الجبال”.

أن الحركة الوطنية قد بلغت مرحلة السير في الجبال، بيد أنها ما تزال تحتذي اخفافاً رقيقة، الأمر الذي يضعها امام واحد من خيارين، لا ثالث لهما: اما ان تواصل السير بمعية القوى الطائفية، حتى تستنزفها صخور جبال صراع الطوائف، أو أن تعمد الى تغيير وجهة سيرها وان تمتلك منهجها الوطني، وتحدد موقفها على اساس مصلحة جماهيرها. وبدون العودة الى الجماهير والتعايش بين اوساطها والسعي لاستنهاض حركتها من جديد، فان النزف سوف يستمر بدون إنقطاع.

يقينا ان المسألة لا تجد حلها، بمجرد التراجع والعودة الى الجماهير، بل ان الأمر يتطلب اعادة نظر ومراجعة نقدية جذرية وعملاَ تمهيداً متواصلا ومضنياً، وربما يستدعي تضحيات كبيرة، ولكنه، ورغم كل ما ينجم عنه، يبقى الحل الوحيد المجدي للخروج من المأزق.

إن نشاط الاحزاب الوطنية، اليوم، من حيث مضمونه واسلوبه، لا يمت بصلة للجماهير ولا يثير اهتمامها. وما من وسيلة نضالية ابتكرتها، ولم ترتد الى عكسها، فحتى الاستشهاد الثوري افرغته من مضمونه بعد ان حولته القيادات الى وسيلة للمتاجرة وموضوع للخطب والمهرجانات في بازار منافسة الزعامات على تبرير وجودها وتدعيم مراكزها. ولكي ندرك هذه الحالة المزرية، دعونا نقارن بين وضع القيادات في الوطن العربي وبين وضع قياداتنا الوطنية. فهناك نلحظ ان عجز القيادات عن اطلاق النار على اعدائها القوميين والطبقيين، قد جعل الجماهير تنفض عنها. وبوسع الانسان ان يلمس رغبة الجماهير في اطلاق النار على حكامها، في العديد من الانظمة الرجعية.

أما هنا في لبنان فنلحظ ان اطلاق النار من قبل القيادات على اعداء الجماهير لم يعد يثير إهتماماً شعبياً وعلى العكس، فانه بات سبياً من أسباب التذمر.

أما سبب ذلك، فيرجع الى ان الجماهير قد باتت مدركة ان الهدف الذي من أجله تطلق النار، لا يعني ولا يمت لمصلحتها بصلة. فالمفارقة، اذن، تتجلى بكون الجماهير في الاقطار العربية. قد تجاوزت قياداتها، التي باتت متأخرة عما تريده الجماهير وما تطمح اليه. أما في لبنان فان « تقدم » القيادات الوطنية الى ميدان الحرب مع اعداء الشعب. قد أصبح سبباً من أسباب انكفاء الجماهير ولا مبالاتها. فهناك قيادات لم ترتفع الى مستوى وعي جماهيرها، وهنا قيادات قد انعزلت عن جماهيرها.

أليست هذه ذروة الافلاس، بل أيمكن أن يفلس عمل وطني، كهذا الافلاس؟

شاهد أيضاً

سنبقى أوفياء (الاخيرة)

الحلقة الاخيرة الجزء الاول سنبقى أوفياء يقول السؤال الذي اختتمنا به الحلقة التاسعة: إذا كان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *