سنبقى أوفياء

سنبقى أوفياء (٤)

الحلقة الرابعة

تواصل ” الثوري” نشر دراسة الرفيق أبو عدنان: 

سنبقى أوفياء ، التي كتبها بمناسبة الذكرى الرابعة لاستشهاد الرفيقين ” حكيم وصخر” .

أكدّ الرفيق ابوعدنان في الحلقة الأولى ” ان ذكرى استشهاد ” حكيم ” و” وصخر” موضوع متجدد بمحتوياته ومضامينه ذلك أن الاستشهاد في سبيل دعم الكفاح القومي ، لا يجسد مثالاً ملموساً على نوعية الفداء الأكثر جدوى، ولا يرسم طريقاً  لربط النضال الوطني القطري العربي القومي ،فحسب، وإنما يكشف عن إيمان بمنهج العنف الثوري رداً على العنف الرجعي، لذلك كان استشهادهما (حكيم وصخر) ترجمة عملية لنظرية الثورة المستمرة حتى النصر “.

ودعا كل مناضل ثوري ، لأن يتأمل دلالة واقعة الاستشهاد هذه ، ويهتدي بها … ولقراءة صفحتين : صفحة ظرف حدوث الواقعة، وصفحة ظرفنا الراهن . وبعد القراءة اترك لك ان تحكم بوجاهة أو عدم وجاهة دعوتي لتأمل دلالة الاستشهاد والاهتداء- بها .

كانت صفحة الأمس رفضاً للمساومة ومقتالة دعاتها ، وما تزال صفحتنا هي هي ، من حيث رسوخ الإيمان وصلابة الالتزام .

وعرض رؤية الحزب لـــ ” طبيعة الثورة اللبنانية وأسلوب تحقيقها “.

وفي الحلقتين الثانية والثالثة ، واصل الرفيق استعراض رؤية الحزب من خلال المذكرات التي قدمها للحركة الوطنية :

  • مذكرة إلى المجلس السياسي المركزي يدعوه فيها لإعادة النظر ” ببرنامج الاصلاح المرحلي” وإعادة صياغته على أسس اقامة سلطة وطنية ديمقراطية في المناطق الوطنية.
  • البيان التأسيسي لجبهة المقاومة الشعبية لتحرير الجنوب من الاحتلال والفاشية .
  • خطة قتالية لقوات الحركة الوطنية.
  • مذكرة ثانية للمجلس السياسي المركزي .
  • مذكرة قدمتها (ل.م.و.) لحزب العمل الاشتراكي العربي إلى اعضاء المجلس السياسي المركزي .(28-12-1980)
  • توجيه مذكرة إلى الرئيس وليد جنبلاط، واللجنة التحضيرية لمشروع الجبهة الوطنية الديمقراطية .

أيها الرفاق والزملاء ،

إنّ الدلالة البالغة التي صاغتها الحرب الأهلية عام 1958، تتجلى بنشوب الحرب خلال مرحلة بلغ معها الإقتصاد اللبناني أوج إزدهاره، بالقياس لمراحل التطور الإقتصادي السابقة، إذ تضاعف الدخل الوطني خلال السنوات الممتدة من أواسط الخمسينات حتى أواسط الستينات وكان المنطق الوطني التقدمي ، بله المنطق الشيوعي العلمي يحتم على قادة العمل الوطني أن يتأملوا ظاهرة نشوب الحرب الاهلية. في ظروف الإزدهار الإقتصادي ـ تأملاً كان كفيلاً بأن يقودهم الى القناعة بأن نظاماً رأسمالياً يفقد القدرة على متابعة التطور المطرد، عندما يبلغ ذروة الأزمة العامة … الحرب الأهلية. وتبعاً لذلك، تفتقد الإمكانية الموضوعية للنضال الديمقراطي العام، انتقاداً يوجب إلتزام العنف الثوري بكافة اشكاله اسلوباً لمواجهة عجز اهل النظام .

لقد كشفت إحصاءات بعثة أرفد ، أن مضاعفة الدخل الوطني لم تعد علي الشعب بالرفاه ، وإنما بمزيد من الإفقار والتجويع ، إذ تبين ان ثلث الدخل الوطني تستحوذ عليه فئة إحتكارية مختلفة مرتبطة بالإمبريالية العالمية ، لا يتجاوز عددها الـــ4% من مجموع السكان، أي مئة وعشرين ألفاً، وتليها في النهب  فئة أخرى لا يتجاوز عدد افرادها أربعماية وعشرين ألفاً ،أي 14% من مجموع السكان ، تستحوذ على الثلث الثاني ، ويبقى الثلث الثالث لبقية السكان . أي أن أقل من خُمس اللبنانيين نهبوا من زيادة الدخل الوطني خلال الفترة المشار إليها ، 773،332 ليرة ، في حين أن أكثر من أربعة أخماسهم لم يحصلوا إلاَّ على 386،666 ليرة ، وبعبارة أخرى فإنّ كل فرد من افراد الفئة الأولى، نهب أكثر من 3222ليرة ، بينما استحوذ كل فرد من أفراد الفئة الثانية على اكثر من 920 ليرة، في حين أن مايقرب من مليونين ونصف المليون من ابناء الشعب، لم ينل الفرد منهم غير ما يربو قليلاً على 105 ليرة من مجموع زيادة الدخل البالغة 1،160،000ليرة ، وبعبارة أوضح ، فإنّ الثاني حصل على 28 بالمئة، بالنسبة لما حصل عليه الأول، بينما لم يحصل الثالث، إلا على ما يتجاوز قليلاً3 بالمئة. لذلك يتضح ان التمركز الإحتكاري قد بلغ حداً ، يكشف للعيان ان الإحكتار الرأسمالي اللبنانية لا يستند الى أساس إنتاجي موضوعي وطني ، وإنما هو إمتداد للإحكتار الإمبريالي العالمي . مما يؤكد على أن أهل النظام، لم يكتفوا بإبقاء المجتمع دون مستوى التطور الممكن والمطلوب تحقيقه، فحسب ، وإنما جعلوا لبنان ممراً للرأسمال الإمبريالي ، ومستقراً لإستغلاله ، وتابعاً يدور في فلك الإمبريالية والصهيونية والرجعية .

هذا هو واقع النظام المختلف ، ويضاف إليه ان دخول المقاومة الوطنية الفلسطينية خلال النصف الثاني من عقد الستينات، قد زاد من طين أزمة النظام العامة بلة. مما كان يؤكد بوضوح تام على ان المجتمع اللبناني سائر بخطى حثيثة نحو الحرب الأهلية !..

وامام معطيات التطور هذه، كيف كانت رؤية القيمين على العمل الوطني، وعلى اي الاساليب الكفاحية ، النضال الديمقراطي العام ، أم الكفاح الثوري . استندت ممارساته وتحددت مواقفه؟

مادمنا التزمنا بمقولة الأمين العام للحزب الشيوعي، فعلينا أن نتخذ من رؤية الحزب الشيوعي لطبيعة تلك المرحلة والأسلوب النضالي الذي التزمه مقياساً للإجابة على السؤال ومراجعة ممارسات ومواقف الحركة الوطنية في ضوئه .

لدى العودة للأدبيات الصادرة عن المؤتمرين الثاني والثالث للحزب الشيوعي ، نلحظ انها حددت الفئة المعيقة للتطور بالطغمة المالية ودعت لثورة وطنية ديمقراطية تفسح في المجال للثورة الإشتراكية . ولكنها حددت ” النضال الديمقراطي العام” أسلوباً لتحقيق دعوتها ، تحديداً التزمته الغالبية الكبرى من أحزاب ومنظمات وشخصيات الحركة الوطنية. وبسبب ذلك التحديد وقعت الحركة الوطنية بمأزق الإنفصام بين النظرية والممارسة العملية . وذلك أن اسلوب” النضال الديمقراطي العام” إصلاحي ليبرالي عاجز عن ردع الطغمة وقمع جنوحها نحو العنف الفاشي، مما يجعله دون مستوى تحقيق شعار الثورة الوطنية الديمقراطية التي تفسح في المجال للثورة الاشتراكية . وبدلاً من ان تقنع تطورات الأحداث ، منذ أواخر الستينات ، حتى منتصف السبعينات ، قادة العمل الوطني بخطأ إلتزام أسلوب ” النضال الديمقراطي العام “… بدلاً من ذلك كرسوا هذا الاسلوب ” ببرنامج الإصلاح الديمقراطي ” الصادر بأواخر عام 1975 . ورغم صدور ” البرنامج” فقد كانوا يرفضون ان يكون لهم مشروع في مواجهة مشاريع الأخرين !..

كان يمكن لتحديد أسلوب ” النضال الديمقراطي العام ” أن يشكل وجهة نظر قابلة للنقاش ، إنطلاقاً من كون الثورة لا تتمثل بأسلوب تحقيقها وإنما بمضمونها الإقتصادي- الإجتماعي والفكري – السياسي ، كما كان المرحوم الشاوي يردد . ويمكن لإرادة الأغلبية الشعبية ان تحمل القوى التقدمين لمركز السلطة كما حدث في التشيلي خلال مرحلة السبعينات ، يبد ان أسلوب الإختيار الديمقراطي يتطلب ظرفاً تتوفر فيه حرية مطلقة وديمقراطية حقيقية يستطيع الشعب معها ان يختار بدون إكراه ممثليه التقدمين لكي يحققوا له تغييراً جذرياً أي ثورة وطنية ديمقراطية تقلب الأساس الإقتصادي ، أي علاقات الإنتاج الى عكسه، وتستبدل أسلوب الإقتصادي ، أي علاقات الإنتاج إلى عكسه، وتستبدل أسلوب الراسمالي بأسلوب إنتاج إشتراكي، وان يتم ذلك كله بظروف الصراع الديمقراطي السلمي!..

واضح ان الرؤية التي اتخذت من تجربة التشيلي ، دليلاً على إمكانية تحقيق ثورة وطنية ديمقراطية  تفسح في المجال لثورة إشتراكية والتي تقول بتحقيق الثورتين إستناداً الى إرادة الأغلبية الشعبية التي تسود في ظل إنتخابات ديمقراطية… إن تلك الرؤية لم تفعل سوى انها نقلت التجربة من ظروف التشيلي لتفرضها على ظروف الحرب الأهلية في لبنان . ومن سوء حظ اصحاب نظرية النضال الديمقراطي العام”. إنّ تجربة التشيلي نفسها ماكانت ترى النور حتى سقطت ، وان ظروف لبنان منذ هزيمة الخامس من حزيران 1967، كانت تتطور نحو الحرب الأهلية ، التي كان تفجرها مفاجأة سريعة لأصحاب الرؤوس المعباة بنظرية ” النضال الديمقراطي العام”. فراحوا يعملون على طمس طابع الحرب ، بكل وسائل التيار الوطني الإعلامية: تارة بصفوتها بالفتنة الطائفية. وأخرى يعتبرونها  حدثاً مفتعلاً ويعمدون لتوزيع الزهور على المارة بين فترات وقف اطلاق النار. لكي يوحوا بعودة السلام المطمور تحت ركام وابل النيران . وكانوا بتلك الممارسات يشبهون النعامة التي تلجأ وقت المخاطر الى دفن رأسها بالرمال ” لكي لا ترى الخطر الذي يحيق بها . لقد اتضح للعيان ان الصيغة النضالية التي حددتها الحركة الوطنية ” ببرنامجها المرحلي، صيغة عاجزة عن استيعاب طبيعة الظروف الملتهبة . ومع ان القتال تجدد بعد صدور ” البرنامج ” بسبعة شهور بعنف أشد . غير أن اصحابها . كانوا يصرون على التزامها تهرباً من تحمل مسؤولية المشاركة بالحرب الأهلية، رغم أن تطورات الظروف الموضوعية قد لوت أعناق المكابرة الإصلاحية واجبرتها على حمل السلاح والقتال دفاعاً عن النفس والمكاتب الحزبية”!…

إنّ سؤالاً هاماً يواجهنا لدى مراجعة مرحلة الحرب الأهلية في عامي 1975- 1976، حول ماهية الدرس الذي استخلصناه من تجربة الخمسينات وبأي مستوى من التفكير كان تيار الحركة الوطنية، ينظر لحاضره ومستقبله ، بالإستناد للتاريخ وتطوره ؟

إنّ احداً من احزاب ومنظمات الحركة الوطنية لم يجرؤ على مواجهة السؤال كيف انتزعت المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة في تقرير مصير الساحة اللبنانية ، رغم العمر المديد لعملنا الوطني والتجارب الغنية التي تخترعها الساحة؟

إنّ الذين لا يأبهون لأهمية مراجعة هذه الوقائع لن يفعلوا اكثر مما فعلوا في الماضي ، ولن يخرجوا عن موقف المراوحة بالمكان ، في وقت لا تعرف فيه حركة الزمن معنى للتوقف او الإنتظار حتى يستفيق الغافلون من غفلتهم ويدركوا أهمية التفكير العلمي والتعلم من تطورات الأحداث واستيعاب قوانينها الموضوعية وترجمتها الى خطة عمل ملموس يتعامل مع الواقع بغية تغييره . تعاملاً يساعد الحركة الوطنية على تجاوز الموقف الذيلي للتطور التاريخي الذي يمسك بالمجتمع اللبناني بقوة عجزت عن قهرها الفاشيتان : الصهيونية واللبنانية ، المدعومتان من قبل الإمبريالية وقواتها متعددة الجنسيات عامة والولايات المتحدة الاميركية خاصة .

إنّ الجواب المنطقي على السؤال : كيف انتزعت القيادة الفلسطينية زمام القيادة في لبنان ، واحالت القيادة الوطنية الى مجرد تابع يدور في فلكها ، يتجلى بكون المنظرين للعمل الوطني. كانوا في كل مرحلة ينشطون لتبليد الأذهان وإبقائها عاجزة عن الرؤية . ففي وقت كانت فيه الساحة تشحن بمقدمات الحرب الأهلية ، كانوا يقولون بالنضال الديمقراطي العام. وفي وقت الحرب الأهلية كانوا مشغولين لصياغة ” برنامج  مرحلي” للنضال الديمقراطي العام، مما فسح في المجال امام عرفات وقياداته لأن يستقطبوا الجماهير ويعبؤها في ميدان صراع البنادق وعنفها المسلح صد العدو الصهيوني إستقطاباً وتعبئة ، لم تكن المشاعر القومية ، هي عاملها الوحيد ، وإنما كان حقد الجماهير الطبقي على الفاشية ، دافعاً يغذي أملها بأن يكون إمتلاكها السلاح وسيلة لتحررها من عسف الطغمة المالية واستغلالها المتمادي بدون حدود . وان تكون الحرب الأهلية ميدانها المعبر عن ميلها الموضوعي للرد على عنف الفاشية بعنف ثوري يردع عن الإحكتار ويضع حداً لسلطة الفاشية ونظامها الرجعي العميل.

إنّ التبعية الفكرية والسياسية والميدانية للقيادة الفلسطينية اليمينية ، جعلت الحركة الوطنية عاجزة عن إلتقاط زمام المبادرة الكفاحية، لدرجة كان معها التناقض سمة اساسية تطيع موقفها وممارستها وعلى سبيل المثال. فقد رفعت شعار المقاومة الشعبية ونشط منظروها في التبشير له ، في أوائل عام 1975 ، اثر المعارك البطولية التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في كفر شوبا ضد القوات الصهيونية . وما ان جاء الرد الفاشي في السادس والعشرين من شباط 1975 ، في صيدا، حتى تراجعت عن منطقها وشعاراتها ، وراح أبرز قياداتها يلعب دور الوسيط بين الجماهير وجلاديها ، لعباً اساء للحركة الوطنية ، وكشف عجزها عن الإرتفاع الى مستوى شعار المقاومة الشعبية الذي رفعته . والأنكى من ذلك . يتجلى بكونها إنطلقت ، في معالجتها لجريمة ضرب مظاهرة الصيادين واغتيال القائد الوطني معروف سعد ، من إعتبار الحادثة مجرد فتنة عابرة بالإمكان تلافيها . وإطفاء نيرانها ، وكان ذلك الإعتبار، واحداً من الأخطاء النظرية الفادحة التي ألحقت ضرراً بالعمل الوطني ، وزادت من تهشيمه وتبعيته للقيادة الفلسطينية اليمينية . 

إنّ القيادة الوطنية التي تنشغل بسلامة جلادي الشعب واستتباب أمن نظامهم، تفقد موقعها القيادي وسط الجماهير . وتتحول الى مجرد واجهة للتستر على جرائم أهل النظام ومساعدتهم على إخضاع الجماهير لإستغلالهم واضطهادهم . إن جريمة السادس والعشرين من شباط عام 1975 ، كانت الحادثة التاريخية التي ارتبطت بها وقائع الحرب الأهلية . إرتباطاً دخل معه النظام ذروة تفاقم أزمته العامة. أي المرحلة الثانية ، دخولاً ، فاجأ الحركة الوطنية ، وحشرها في مأزق ذيل تطورات الأحداث ، طيلة مرحلة الحرب الأهلية وامتدادتها ، دون ان تتمكن من إلتقاط أنفاسها واسترداد دورها الوطني ، حين أعلنت وارخت وما تزال تعلن وتؤرخ  أن الثالث عشر من نيسان وليس السادس والعشرين من شباط 1975 ، هو الحادثة التي تؤرخ بداية الحرب الأهلية بوقوعها ومعلوم فإنّ الثالث عشر من نيسان حادث فلسطيني رغم وقوعه في بيروت، ثم أنه ماكان يمكن ان يقع لولا إصرار القوى الفاشية وتصميمها على إشغال فتيل الحرب الأهلية ، الذي قدحت شرارته الاولى بضرب مظاهرة الصيادين واغتيال القائد الوطني معروف سعد ، في السادس والعشرين من شباط . إنّ ردة الفعل الوطنية اللبنانية على جريمة صيدا كانت أشمل واعم ، لدرجة كان بوسع الحركة الوطنية ان تحولها الى ذريعة للهجوم على الفاشية ، لولا أنها اختارت البقاء في موقع الذيل الملحق للأحداث التاريخية ويبقون يلهثون وراء تطوراتها !… 

لقد أكدت تجارب الشعوب المناضلة على ان لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية . ومع ذلك فإنّ دور الفكر في الساحة اللبنانية ، يبقى دائماَ ذيلاً لتطورات الأحداث . بسبب عجز مفكري الحركة الوطنية عن إمتلاك الرؤية الاستباقية . إذ يديرون الظهر للأحداث التاريخية ويبقون يلهثون وراء تطوراتها .وما ان تصبح واقعاً مفرضاً عليهم . حتى يبادرون للإدعاء بأنهم صانعوا التاريخ وابطال وقائعه ، ويتنافسون فيما بينهم على عائدية هذا الإدعاء ، منافسة تزيد من وهن العلاقات الوطنية، وتربك الحركة العامة لتيارها ، لدرجة يبقى معها التمزق والإقتتال طابعاً عاماً يطبع العلاقات بين احزاب ومنظمات الحركة الوطنية . الأمر الذي لا نجد شبيهاً له بين تجارب الكفاح الجبهوي الموحد !..

إنّ مواقف بعض احزاب الحركة الوطنية من حوادث الثالث والعشرين من نيسان 1969 الدامية ، واجتياح بعض الجنو ب عام 1972 من قبل الصهاينة وجريمة السادس والعشرين من شباط 1975، واجتياح الصهيانة للجنوب عام 1978 ، والحرب الخامسة عام 1982 … إنّ هذه المواقف تؤكد على ذيلية الحركة الوطنية لتطورات الاحداث ، وتبعيتها للقيادة اليمينية الفلسطينية . إذ هربت قواتها المقاتلة بالجنوب تحت ذريعة الانسحاب امام القوات الصهيونية عام 1978 ، بدلاً من ان تلتحم معها بمواجهة بطولية مصيرية ، تنتزع معها  زمام المبادرة القيادية في مواجهة العدو الصهيوني ، وتسجل على القيادة اليمينية الفلسطينية ، تواطؤها مع العدو وهروبها امام اجتياحه . الأمر الذي يطبع الذكريات بالأسف والحزن ، إنّ قادة الحركة الوطنية : احزاب ومستقلون  قد رفضوا طلبنا الذي قدمناه اثناء إنعقاد المجلس السياسي المركزي، والذي دعا المجلس بإعتباره هيئة أركان المقاومة الوطنية للعدو الصهيوني، للإنتقال إلى صور حيث صمد رفاقنا للدفاع عن قدسية المدينة. ولم يكتفوا بالرفض ، بل أن ” بعضهم” ممن يصدعون الرؤوس إدعاء بالبطولة والمقاومة الوطنية ، قد أعلن على رؤوس الإشهاد وامام اعضاء المجلس، أنه يخشى الموت إذا ما ذهب الى صور أو صيدا، وفي وقت ضحك ” البعض” الآخر، منّا واصماً إيانا بالمغامرة والمسلكية غير المحسوبة . ولم يكتفوا بذلك ، وإنما عملوا- فيما بعد- على محاصرتنا وعزلنا وعدم مشاركتنا بالعمليات ضد، “فيتو” سعد حداد، قبل ان نتخلى عن صيغة جبهة المقاومة الشعبية التي شكلناها بعد هروبهم من الجنوب ، والتي قاتلت الصهيانة وقدمت الشهداء:راجي وايهاب فداء للوطن .

إنّ القيادة التي تعاقب احد فصائلها ، على إنفراده بمقاتلة العدو الصهيوني ، لا يمكنها ان تكون طليعة قادرة على قيادة الجماهير نحو اهدافه، وليس من حقها ان تدعي بطولة وهمية لا تمتلكها !…

هكذا كانت السلبية سمة عامة تطبع نظرة الحركة الوطنية وموقفها، حتى الحرب الخامسة وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت . فكيف واجهت الحركة الوطنية تطورات احداث الساحة بعد تحررها من هيمنة القيادة اليمينية الفلسطينية وسيطرة الفاشيين على النظام اللبناني ؟

المنعطف الثالث:

المرحلة الثالثة لتفاقم أزمة النظام العامة: 

-1-

لا بدّ من تسجيل شهادة للتاريخ… للحقيقة… للأجيال اللبنانية والعربية: إن حزباً أو حركة أو منظمة من احزاب وحركات ومنظمات الحركة الوطنية لم يجابه الاجتياح الصهيوني في الواقع من حزيران 1982 كما يجب، خلال الفترة الأولى. وقد انهزمت الحركة الوطنية مثلما انهزمت المقاومة الفلسطينية . وفي تقديرنا ان هزيمة الحركة الوطنية ، مسألة طبيعية. بحكم كونها تشكل امتداد لهزيمة القيادة الفلسطينية التي كانت القيادة الفعلية للساحة !…

إن تسجيل هذه الشهادة ضرورة تاريخية لقطع دابر الإدعاءات الرخيصة التي لا يستحي ” البعض” من ترويجها وتداولها . من جهة، ولمراجعة دور القوى التقدمية والوطنية في الإسهام بصمود بيروت وتنظيم المقاومة الوطنية . بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت . من جهة اخرى .

-2-

بعد مضي فترة على هزيمة المقاومة الفلسطينية في الجنوب بدأت بعض احزاب ومنظمات الحركة الوطنية تخرج من جو مباغتة الحرب لتسترد انفاسها مما اتاح لها ان تعيد تنظيم قواعدها على اساس مقاومة الاحتلال الصهيوني ، وبدون جدال فإنّ مبادرة الأحزاب الشيوعية الثلاثة : الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي . كانت أبرز المبادرات المنظمة، التي ادت لقيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية المسلحة ، التي تم الاتفاق عليها اثناء حصار بيروت . والتي اعلنت في السادس عشر من أيلول رداً على الاجتياح الصهيوني للمدينة!..

ولكن لا بدّ ان تسجل للحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه الرفيق وليد جنبلاط، دوره الطليعي في مواجهة القوات الفاشية ، ومقاومة محاولتها السيطرة على الجبل. بعد أن استغل حزب الكتائب الاحتلال الصهيوني للقفز على كرسي رئاسة الجمهورية . إذ لولا تلك المبادرة لكان تحقيق الانتصارات التاريخية في الجبل وبيروت امراً متعذراً . لا يمكن ان يخرج عن نطاق الاحلام التي تفتقر للقوى القادرة على ترجمتها الى حقيقة ملموسة!…

إنّ الحرب الأهلية التي خاضتها قوى الموقف العربي الوطني خلال عامي 1982- 1984، والتي تكللت بالغاء اتفاق السابع عشر من ايار 1983 وبهزيمة الفاشية والقوات الامبريالية متعددة الجنسيات ، والتي ادخلت النظام الرجعي بمرحلة ازمته العامة الثالثة . ما كان لها ان تنشب وتنتصر لولا دور الحزب التقدمي في الجبل وحركة أمل في بيروت . أما ادعاء الأمين العام للحزب الشيوعي ، بان حزبه هو الذي اعد مع الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لانتفاضة السادس من شباط 1984 ، فواحد من الادعاءات الرخيصة التي ألحقت اضراراً فادحة بالعمل الوطنية ، والتي نحذر من مغبة تكرارها .

 مما تقدم يتضح أن تغييراً ايجابياً قد طرأ على موقف الحركة الوطنية. بعد هزيمة المقاومة الفلسطينية وخروجها من بيروت، ولكن الانتصارات التي تحققت والتي طبعت دور الحركة الوطنية بإيجابية كان يفتقدها في مراحل الصراع الأولى ، لا يجوز ان تحجب عن الانظار حدثين سلبيين:حل الحركة الوطنية، ونهاية جبهة الخلاص الوطني . فما هي الدلائل السلبية لهذين الحدثين ؟:

دلائل حل الحركة الوطنية: 

لسنا نظن طرفا وطنياً، يمكن أن يجادل بما لصمود بيروت من أهمية تاريخية نضالية . ومع أن المقاومة الفلسطينية كانت قائدة لذلك الصمود ومنظمته الاساسية ، يبد أن كافة الاحزاب والمنظمات والحركات الوطنية المتواجدة في بيروت قد أسهمت فيه ، وشاركت بإنجازه وكان المتوقع والمفترض ان يستغل قادة الحركة الوطنية ، تلك المآثرة الكفاحية التاريخية، ليعيدوا تنظيم حركتهم على أساس تلك المشاركة ، لكي تبقى راية الكفاح الوطني الموحدة مرفوعة بوجه الهجمة الصهيونية- الامبريالية- الفاشية، بقاء لا يقارع الأعداء القوميين والطبقيين بوحدة الارادة الوطنية . فحسب، بل وتصطدم به القوى الوطنية التي تحاول احتلال الساحة الوطنية . وفرض هيمنتها عليها!..

إنّ القوى التقدمية والوطنية الثورية تسعى لتوحيد صفوفها  في ظروف تعرض الوطن للاحتلال ، لكي تحشد قواها وجماهيرها لمقاومة المحتلين ومقاتلتهم . أما قادة حركتنا الوطنية، فقد عمدوا الى العكس تماماً . إذ فاجأوا الجماهير بإعلان حل الحركة الوطنية وتشتيت صفوفها. بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت مباشرة ، مما سجل سابقة لا مثيل لها بتاريخ جبهات التحرر الوطني والمقاومة المسلحة . من جهة، وشجع الصهاينة وعملائهم الفاشيين على اقتحام بيروت وتدنيس قدسيتها، من جهة ثانية، وترك انطباعاً سلبياً لدى جماهير الشعب ، ذكرها بهامشية دور الحركة الوطنية وتراجعها خلال المنعطفات التاريخية: ذكرها اعلان الحل بتملص الحزب الشيوعي من التزامه بجبهة الأحزاب والشخصيات الوطنية اثر حوادث الثالث والعشرين من نيسان عام 1969 الدامية ، وفرط عقد تلك الجبهة، تاركاً الضحايا من الشهداء والمعتقلين والجماهير بدون موجه وطني جماعي ومحدثاً خلافاً حاداً داخل الصف الوطني بدلاً من توحيده في مواجهة الهجمة الفاشية . وذكرها أيضاً بتراجع الحركة الوطنية عن شعار المقاومة الشعبية ضد الغزاة الصهاينة والفاشية اللبنانية عام 1975، من جهة ثالثة ، وذكرها، ايضاً بتراجعها المزري عن مبادرة المجالس المحلية المقدامة التي اطلقتها بجرأة كفاحية نادرة، والتي تراجعت عنها ، تراجعاً اثار خيبة أمل الجماهير واشمئزاز عناصرها الطليعية ، وعرض سمعتها للإزدراء والسخرية . وأية سخرية أقل من الركوع امام ردة الفعل الرجعية والانبطاح تحت اقدام صائب سلام ومن هم على شاكلته ومثاله الرجعي الفاشي الـــ…؟ من جهة رابعة ، مما كرس في الاذهان، ذلك الانطباع السائد عن عدم جدية الحركة الوطنية ، والمسؤول عن انصراف الجماهير والتحاق اكثر عناصرها شجاعة بالقوى الطائفية ، من جهة خامسة!…

لقد كان إعلان حل الحركة الوطنية ، عامل احباط لمعنويات الجماهير الشعبية، وتثبيط لبداية نهوضها بوجه المحتلين وعملائهم الفاشيين. ففي وقت كانت فيه الجماهير تقاتل الفاشيين في الجبل،  وتتحفز لمقاتلة الصهاينة في الجنوب، جاء إعلان الحل ليقول لها: إن حركتك الوطنية المنظمة قد فرط عقدها وتداعى تنظيمها. فضلاً عن ذلك، فإنّ خطوة الحل قد شجعت بعض اطراف الحركة الوطنية على الهروب من ميدان المواجهة ، من جهة، وستر هروب الهاربين اصلاً ، ليعودوا بعد الانفراج ، لاشغال المواقع التي هربوا منها ، من جهة أخرى.

لكي لا يساء فهمنا ، أو يفسر قصدنا ، لغير ما نفهم ونقصد، فإننا نبادر للقول ان مسؤولية حل تنظيم الحركة الوطنية الذي كان قائماً. خطيئة لا يتحملها طرف واحد من اطراف الحركة الوطنية ، بل ان جميع اعضاء اللحنة التنفيذية الذين كانة يهيمنون بقوة لا قبل لأي طرف من أطراف الأخرى على مقاومتها ، يتحملون المسؤولية سواء في ذلك ، الذين قرروا الحل واعلنوه ، او الذين سكتوا عليه ولم يسجلوا اعتراضهم او عدم علمهم به، إذ لو عارض الذين شاركوا بخطيئة الحل. ليبرؤا ساحتهم من مسؤولية اقتراف الخطيئة من ناحية، وتابعوا قيادة العمل الوطني من ناحية اخرى !…

بعد تسجيل هذه القناعة ، لا بد من دمغ الذهنية التي عكسها قرار الحل بالتقصير وانعدام القدرة على رؤية آفاق تطورات الأحداث في الساحة اللبنانية ، إذ يلحظ الانسان وراء حل الحركة ، رؤية قصيرة النظر ، تتوراى خلف التذرع بالظرف الذي كان سائداً، آنذاك،فحواها : ان لبنان بعد الهزيمة التي حلت بقواه الوطنية نتيجة الاحتلال الصهيوني ، لم يعد بحاجة للقوات العربية السورية، ولا لمقاتلي الثورة الفلسطينية ، لذلك فإن حلها كان اسلوباً ينسجم مع ادارة الظهر لسوريا والثورة الفلسطينية ، والرغبة في عزلهما عن مركز التوجيه والفعل المؤثر في الصراع الدائر على الساحة اللبنانية. أما اليوم ، وقد اتضحت ضحالة هذه الرؤية وتكشف خطلها ، فقد عادت التركيبة الى قواعدها، وكأن أمر المحل كان يقصد من ورائه انتهاز الظرف للدخول بتجربة عمل وطني جديدة ، كان ” البعض” يحلم به، عندما يستسلم لرغبته في اغراق الساحة بما كان يسمى “جبهة وطنية عريضة”، ولدى خيبة أمل فيما سمي بـــ جبهة ىالخلاص الوطني”. التي ارادها ” البعض” ترجمة لاحلامه غير الواقعية ، رجع الى الصيغة”، التي ارادها ” البعض” ترجمة لاحلامه غير الواقعية، رجع الى الصيغة القديمة كما رجعت حليمة لعادتها القديمة . ولكي يخفي فشله الذريع وافتضاح اوهامه. راح يصدع الرؤوس بهمروجة اعلامية غوغائية الحق ضرراً بالوطنيين عامة والشيوعيين خاصة . بما أثارته من ردود فعل طائفية ، الأمر الذي أعاد التأكيد على أن التمادي بالتعامل مع قضية العمل الوطني ،بأسلوب الارتجال والادعاء والمزايدة الاعلامية ،وكانها بضاعة معروضة للاستهلاك اللبناني الوطني والعربي القومي … إنّ التمادي بهذا الاسلوب لن يحقق للعمل الوطني تقدما ولن يحرز غير الضرر والضياع، فهل هذه هي الدوافع المحركة لقيام ماسمي بـــجبهة الخلاص الوطني “؟ 

” الخلاص الوطني وجبهة ” الخلاص الوطني”

-1-

ايها الرفاق ،

إنّ الإستخفاف بالمفاهيم والمقولات العرفية ، افرغ صيغ العمل الوطني من مضامينها ، وجعل الجماهير عاجزة عن استيعاب لغة الحركة الوطنية ويائسة من أسلوب عملها!…

إنّ ” الخلاص الوطني” مفهوم ينبغي ان يقدم للجماهير لكي يرشدها الى ان حركتها الوطنية ترفع شعار الثورة على الواقع وقلبه الى نقيضه. وفعلاً فقد فهمت الجماهير ، أن معركتها مع الفاشية، هي معركة الخلاص الوطني من الحالة الفاشية التي فرضتها الصهيونية والامبريالية ، ولكنها فوجئت بموقف ” بعض” اطرافها في لوزان ، كما فوجئت بالتسوية التي انتهت بحكومة ما يسمى بالوحدة ” الوطنية” مما خلق لديها ردة فعل مبررة ومنطقية . ضد التسوية وضد مشاركة الوطنيين بالحكومة رغم ان تشكيل حكومة كرامي كان مؤشراً لهزيمة الفاشية وتراجعها امام الهجوم الوطني!

إنّ إعتبار العمل المشترك مع بعض أهل النظام. جبهة للخلاص، كان اعتباراً ضاراً بسمعة العمل الوطني وبرموزه الوطنية. فلو قيلت الحقيقة للجماهير ولو اطلقنا على التجمع التقليدي المؤقت الذي مثلته جبهة ” الخلاص الوطني” إسم ينطبق على جوهره لكانت الاستفسارات تنصب على الدوافع الداعية اليه، ولكن التوضيح يسيرا، ودخول الوطنيين للوزارة أمراً مفهوماً . أما أن نقول أنها جبهة للخلاص الوطني وبعد فترة تبرر نهايتها بالقول السطحي جداً والساذج جداً والمثير للاشمئزاز :” أن جبهة الخلاص قد أدت مهمتها وانتهت ” وكأننا نخاطب الازلام والاتباع ، وليس جماهير الشعب وقواها الوطنية التقدمية… أما ان نتعامل مع الجماهير والمفاهيم وتجارب العمل الوطني بمثل هذا المستوى من الاستخفاف ، فأمر ضار لأنه لا يثبط الهمم الوطنية  ويدفع الجماهير لليأس من الوطنيين، فحسب، وإنما هو يدعو للاستفسار عن جدوى مثل هذا الاسلوب، ودوافع هذه الممارسة المؤذية: لماذا نعبث بتراثنا وتجاربنا المعمدة بدماء الشهداء وآلاف الضحايا بهذه الطريقة المثيرة للتذمر والاشمئزاز ؟

يوم اعلنت جبهة ” الخلاص الوطني” ، تساءلنا عن مهمتها وكيفية ادائها . يبد ان الجواب الوحيد الذي تكرم به علينا” الشيوعي” الذي حضر المؤتمر . كان ابتسامة ساخرة. لم نفهم منها شيئاً اكثر مما فهمه حنين بعد ان افتقد حماره . اما اليوم وقد افهمتنا الاحداث مغزى تلك الابتسامة الساخرة من ” الشيوعي” العلمي جداً والشاعر بمسؤوليته جداً. فقد ادركنا كم كنا ساذجين حين طالبنا بضرورة ان تكون الجبهة اسما على مسمى ، لكي نقدم للجماهير تجربة جديدة تؤكد معها اهليتنا لقيادة العمل الوطني ، واقترحنا ان تقوم الجبهة بتعبئة الجماهير الشعبية وان تشكل قوات مقاتلة لخوض معركة الخلاص الوطني ، وان تتمثل الاحزاب بقيادتها حسب قدرتها القتالية ، يبد أن الامر الوحيد الذي قامت به الجبهة . هو المؤتمر الذي عقد في مدينة بعلبك كما هو شأن نواة الجبهة الوطنية الديمقراطية … مجرد اعلان: من العمل الوطني المتطور… الى العمل العريض … الى العمل- الى الاعلان- الفاشل!

اما الفارق بين اعلان بعلبك واعلان بيروت ، فيتجلى بكون تجربة الجماهير مع الاعلان الاول , فقد علمتها أن لا تحفل ولا تأبه بالإعلان الثاني .

لقد سئل موشي ديان مرة عن الاساس الذي اعتمده عاد 1967، في تطبيق خطة حرب عام 1956 نفسها، مع انها انكشفت للعيان ، فأجاب: ” أن العرب لا يقرأون ” ولذلك فإنه كان واثقاً ان خطة حرب عام 1956 ما تزال غير مفهومة أو أنها قد باتت منسية بعد مضي عشر سنوات على تنفيذها . و”بعض” قادتنا الوطنيين يتعاملون مع الجماهير على اساس انها تنسى اقوالهم ووعودهم والتزامهم ، دون ان ينتبهوا الى ان الجماهير غير العرب الذين اعتمد موشي ديان على عدم قراءتهم ليكرر خطة الحرب نفسها مرتين. ذلك ان غفلة الحكام تختلف عن وعي الجماهير . فأولئك تنسيهم القصور وكرسي السلطة واحباتهم والمهام التاريخية الملقاة على عواتقهم . أما الجماهير فبحكم كون العمل الوطني يمس مصالحهم الحياتية مباشرة . لا يمكنها ان تنسى المفاهيم التي تعدها بالخلاص الوطني من الفاشية وتنكث وعدها بعد شهور معدودة . إن وعد الوطنيين للجماهير يدخل في وعيها ويشكل جزءاً نشطاً فيه لذلك فإن تكرار خيبة املها يدفعها لعدم الاهتمام بالوعود الوطنية والتعامل معها بلا ابالية ، مما يؤدي حتما لعزلة الوطنيين الذين يكذبون على الجماهير!

-2-

ربما يتراءى أننا نعارض حشد كافة القوى في ميدان المعركة ضد الفاشية المدعومة من قبل الإمبريالية متعددة الجنسيات والصهيونية . لذلك تسارع لازالة أي انطباع من هذا النوع . ولكننا نتساءل عن غاية الحشد واسلوب تحقيقه .. هدفه واداة بلوغه ؟ 

فإذا كانت غاية الحشد ان نهزم اعداء الجماهير وباسلوب العنف الثوري المسلح… وإذا كانت الجماهير هي الاداة التي بفضلها سنبلغ هدفنا . فهل يصح ان نشحد في القمة فقط، أم أن الحشد ينبغي أن يكون في القاعدة أساساً ؟

إنّ الاداة الفعلية التي تحقق الانتصار على الفاشيين هي الجماهير … المقاتلون المفعمون حماسا للقتال ، والذين يدفعهم حقدهم على اعدائهم الطبقيين الفاشيين لافتداء انتصارنا بأعز مالديهم وأغلى ما يمتلكون … بدمائهم وبارواحهم !…

فإذا كانت الجماهير وسيلتنا وغايتنا ، فهل يصح التعامل معها باسلوب أدارة الظهر لا حاسيسها ومشاعرها ، كما حدث وما يزال يحدث حتى اللحظة هذه ، احياناً ، وبالكذب عليها وتنصيب المدانين بسرقة الأموال المخصصة لمعالجتها واسعافها ودعم معركتها ، على رأس ” المدافعين” عنها ؟ 

لقد اعلن عن تشكيل ” جبهة الخلاص الوطني” بمؤتمر صحفي دام بعض الوقت في مدينة بعلبك . وبعده أدار المؤتمرون ظهورهم للجماهير التي انتظرت اجابات شافية على اسئلتها العديدة ، دون جدوى . كان لديها سؤال عريض عن القوات الوطنية التي ينبغي ان تقوم بخوض المعركة وعن المقياس الذي بموجبه يتقرر وضع مندوبي هذا الحزب او ذاك على رأس الجبهة ، وعمن يرسم مواقف الجبهة ويحدد سياستها ، وعن كيفية استثمار الانتصار والجهة التي ستؤول اليها مكاسب المعركة السياسية وقبل ذلك كان السؤال عن كيفية تمويل المعركة وتحمل تبعات ادامتها . وكيفية محاسبة الاحزاب التي تنكث بتعهداتها والقيادة الميدانية التي تقرر مصير المعركة وتحسمها دون العودة لهذا الحزب أو ذاك والجهة الموجهة لاعلام المعركة المرشدة للجماهير !..

كل هذه الأسئلة واخرى وغيرها بقيت بدون ان اجابات شافية ومحددة . الأمر الذي جعلنا نخوض المعركة بقوات غير ممثلة بالجبهة وان تستحوذ الطائفية على مكاسب المعركة السياسية ويتم التصرف بالأموال والاسلحة المعتمدة للمعركة من قبل بعض الاحزاب لتتكبد الاحزاب المقاتلة تسليح وتمويل مقاتليها.

ويستثمر ” بعض” الأحزاب ممن تقاعسوا عن خوض معركة الشحار الغربي، الانتصار على الصعيد العالمي. واستثمارا طمس دور الاحزاب المقاتلة ودماء شهدائها ، وراح كل حزب يدعي ماشاء له الادعاء عن بطولات لولاها لاستحال الانتصار. ويلقي بسلبيات المعركة على عاتق الآخرين . وفي خضم هذه الفوضى ” الوطنية” افتقدت الجماهير ” جبهة الخلاص الوطني”، ولم يبق منها سوى السخرية التي اثارها التصرف الطائفي لدى ” بعض” اطرافها في لوزان ، ليتضح فيما بعد ان الجبهة لم تكن جبهة للخلاص الوطني بقدر ماكانت الجبهة للخلاص الطائفي لدرجة احجم معها دعاة الجبهة ومؤسسوها عن التفوه بكلمة رثاء واحدة تقول للجماهير ما حل بالجبهة ولماذا قصم الانتصار ظهرها ؟

كان السؤال وجيهاً جداً عن الأسباب التي جعلت تجربة الجبهة تتحول إلى مسخرة بعد مأساة حل الحركة الوطنية ، ذلك أن التجارب النضالية تترسخ في ظروف انتصاراتها ، أما في لبنان فإن المقياس معكوس ، عام 1969 ، فرط عقد اللقاء الجمهوري بعد معركة الثالث والعشرين من نيسان وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت اعلنوا حل الحركة الوطنية. وبعد انتصار الجبل وبيروت تلاشت ” جبهة الخلاص الوطني  “، خاطباً الجماهير بمؤتمر صحفي جديد وبيان جديد يعلن عن قيام ” جود” جديدة حتى خيل للمطلعين ان الحزب الشيوعي العراقي قد نقل تجربته للبنان ، ولكنهم لم يلحظوا ” جوقد” لبنانية، في مقابل ” جود ” الجديدة !…

هكذا تتكرر تجارب العمل الوطني ، بهذا الشكل الذي لم تعد للجماهير مقتنعة بجدواه ، ولم تعد تعقد آمالاً عليه . وقد قيل قديماً ان الأحداث المشابهة، اذ ما تكررت في ظروف مشابهة ، فستكون مأساة في المرة الأولى ومسخرة في المرة الثانية . فكم مأساة وكم مسخرة عاشها العمل الوطني ياترى؟

لسنا نسخر او نتهكم على العمل الوطني فنحن جزء منه . ولكننا نرى ان انخراط الجماهير واكثر عناصرها استياء من تردي الأوضاع. في صفوف القوى الطائفية دليلاً على افلاس الاحزاب الوطنية وعزلتها عن جماهير الشعب العريضة . ولو لم تكن الجماهير في واد والقيادات الوطنية في وادٍ آخر، لكان الاستقطاب الجماهيري ” وطنياً “، ولكان الفداء الثوري ” وطنياً ” . 

لكل ما تقدم فإننا نتساءل عن المقياس الذي بموجبه تم تحديد الاحزاب المشاركة فيما سمي بــ” النواة” أو ” القيادة “. وفيما إذا كان الاعلان عن الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) ، يقصد به تكرار تجربة الساحة العراقية المريرة ، بقيام جبهة وطنية قومية ديمقراطية (جوقد) ، في لبنان ايضاً ، لكي يصبغ العمل الوطني بصبغة الحزب الشيوعي حتى لو أدى ذلك لانقسام الساحة الوطنية وتشرذم تيارها ؟

إننا نعتقد ان العمل الوطني الجبهوي ، بات يحتاج، اكثر من اي وقت مضى، لمقاييس سياسية وتنظيمية ، توجه فعاليته وتضبط حركته . ففي ضوء ما تقدم يتضح ان الاعتباطية هي المقياس والمنفعة الحزبية الضيقة هي للدافع الذي يجعل التكالب على المركز القيادي للعمل الوطني شغلاً شاغلاً لقيادات الاحزاب وكوادرها . في وقت يتطلب فيه العمل الوطنية تضحية من بعض الاحزاب وفعالية من ” بعض الآخر ، وبرهنة على استحقاق المشاركة فيه من البعض الثالث ‍!

إنّ مناهج العمل الوطني الجبهوي السياسية ، تتحول الى شعارات فارغة، إذا ما افتقدت الالتزام المبدئي والمناقبية الكفاحية وروح الايثار التعاونية والمشاركة النضالية . لذلك فإننا نقترح مايلي : 

شاهد أيضاً

سنبقى أوفياء (الاخيرة)

الحلقة الاخيرة الجزء الاول سنبقى أوفياء يقول السؤال الذي اختتمنا به الحلقة التاسعة: إذا كان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *